د. منير الحمش(**)
«كل أزمة تحمل في طياتها فرصاً وتحديات جديدة تفترض التغيير أو التحول، فضلاً عن الدروس لمن يريد الاستفادة، وهذه الأزمة، ليست استثناء».
أُلفت النظر بداية إلى أني أدخلت تعديلاً لعنوان المحاضرة التي كُلفت بتقديمها. فقد كان العنوان «الأزمة المالية الراهنة.. ومصير النظام الرأسمالي» وقد استبدلت تعبير الأزمة المالية بالأزمة العالمية. اعتقاداً مني بأن ذلك يُعبر على نحو أفضل عن حقيقة الأزمة، التي بدت وكأنها أزمة مالية، بعد أن كانت أزمة رهون عقارية، لكنها بعد ذلك انتقلت، كما كان متوقعاً، إلى أزمة مالية – اقتصادية. أصابت القطاع الاقتصادي العيني بالعمق، وأدخلت اقتصادات العالم في نفق الركود.
ومنذ اندفاع فقاعة الأزمة المالية الراهنة وما أدت إليه من تداعيات شملت القطاعات الاقتصادية العينية، وامتدت إلى مختلف بلدان العالم عُقد العديد من المؤتمرات والندوات على الصُعد الرسمية والأكاديمية والإعلامية، كما وضع العديد من الدراسات والبحوث لبيان أسباب الأزمة وخلفياتها وتداعياتها، ومع ذلك فلا يزال هناك متسعاً لمزيد من الدرس والبحث والحوار، فالأزمة لا تزال في بدايتها، وأنا شخصياً مع الرأي القائل بأن القادم أسوأ.
إن تاريخ النظام الرأسمالي حافلاً بأزمات عديدة، فهو تاريخ أزمات مختلفة الأشكال والأسباب والأبعاد والنتائج، لكن هذه الأزمة تختلف عن سواها من حيث الامتداد والعمق والتداعيات، نتلمس ذلك من خلال أبعادها الثلاث:
البعد الأول: يتعلق بالاقتصاد الأميركي ونظامه: فالأزمة الراهنة تختلف جوهرياً عن الأزمات السابقة التي عصفت بأسواق المال في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ونخص بالذكر:
– أزمة القروض في أمريكا اللاتينية في ثمانينات القرن الماضي.
– الأزمة النقدية في بريطانيا في عامي 1992 و1993.
– الأزمة النقدية في أمريكا اللاتينية في عامي 1994 و1995.
– الأزمة النقدية في شرق آسيا (أزمة النمور الآسيوية) 1997 – 1999.
إن ما يميز هذه الأزمات أنها نشبت بعيداً عن الاقتصاد الأميركي. وكانت الإدارة الأميركية تقوم بجهد هام من أجل احتواءها والحد من انتشارها وتحولها إلى أزمة عالمية يصعب السيطرة عليها.
أما الأزمة الراهنة، فقد نشأت واستفحلت في مركز الرأسمالية العالمية في الولايات المتحدة، ثم انتقلت إلى أنحاء العالم.
البعد الثاني: ينقلنا البعد الأول للأزمة إلى بعدها الثاني، وهو الاقتصاد الأميركي من حيث أنه الأقوى والأكبر عالمياً، وهو يشكل أحد دعائم بقاء الولايات المتحدة كأقوى قوة في عالم القطب الواحد، وحيث تتركز الإستراتيجية الأميركية بعدم السماح بظهور قوى أخرى في إطار السعي إلى صياغة عالم متعدد الأقطاب، ويطرح هذا البعد مجموعة من الأسئلة حول واقع الاقتصاد الأميركي والسياسة الأميركية، وتوجهاتها، وممارساتها ودورها في ظهور الأزمة وانتشارها، كما يطرح علاقة ذلك كله بقيم وثقافة وسلوك الأفراد والمجتمع الأميركي.
أما البعد الثالث: فيشير إلى أن هذه الأزمة في ضوء البعدين الأول والثاني، ما هي إلا أزمة في النظام الرأسمالي الاحتكاري في تطوره وفي التزامه بأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة، مما يجعل من الضروري طرح السؤال الكبير حول مصير هذا النظام.
من خلال هذه الأبعاد الثلاثة، سوف نناقش هذا الموضوع ضمن المحاور التالية:
المحور الأول: تشخيص الأزمة الراهنة وبيان مراحلها..
المحور الثاني: واقع الاقتصاد الأميركي والسياسات الاقتصادية.
المحور الثالث: الأزمة من حيث كونها أزمة النظام الرأسمالي الاحتكاري الملتزم بأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة.
المحور الرابع: مصير النظام الرأسمالي.
المحور الأول: تشخيص الأزمة الراهنة وبيان مراحلها:
من خلال ما تم الإعلان عنه وما تم تداوله من آراء ومواقف، بدا واضحاً أن هناك خلافاً فيما طرح حول تشخيص الأزمة وبيان أسبابها وحقيقتها.
ومن الطبيعي أن يحصل الخلاف وفقاً لتفاوت قراءة الأزمة وفقاً للانتماءات الفكرية والأيديولوجية وللمصالح، فقد فسرها البعض على أنها مجرد نقص في السيولة، وقال آخرون أنها ترجع إلى الإفراط في منح القروض العقارية، بينما وجد آخرون أنها إفرازاً طبيعياً يُمكن تجاوزه في اقتصاد رأسمالي عملاق.
في حين قُدم تفسير آخر يربط الأزمة بطبيعة النظام الرأسمالي في تطوره نحو الرأسمالية الاحتكارية المعولمة.
والعديد من الاشتراكيين الماركسيين، لم يستطيعوا إخفاء شماتتهم في الاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري واقتصاد السوق، وأعلنوا أنه على وشك السقوط أو أنه قد سقط فعلاً.
تماماً، كما شمت الليبراليون الاقتصاديون الجدد، ودعاة اقتصاد السوق، من الاشتراكية عندما انهار الاتحاد السوفيتي وفشلت تجربته الاشتراكية، فقد أعلن هؤلاء وبكل جرأة نهاية التاريخ والانتصار الحاسم للنظام الرأسمالي.
وإذا كان دعاة اقتصاد السوق من الليبراليين الجدد، قد اتخذوا جانب التهوين مما حصل، وأعلنوا عن ثقتهم بإمكانية تجاوزها، وإذا كان البعض من الاشتراكيين اعتبروا ما حصل نهاية النظام الرأسمالي، على نحو لا يخلو من التهويل، فإن الأمر لا يخلو من المواقف والكتابات والآراء الموضوعية التي لم تقع في شرك التهوين أو التهويل.
من هنا، أرى أن نعود إلى تشخيص الأزمة انطلاقاً من بيان ما حصل فعلاً، ووضعه في إطاره العملي والنظري، وإذا كانت الأزمة الراهنة، قد بدأت بالأزمة المالية، فحريٌّ أن نقف على ماهية الأزمة المالية من خلال تعريفها.
إذ يُقصد بالأزمة المالية، ذلك الاضطراب أو التوتر المالي الذي يؤدي إلى تعرض المتعاملين في الأسواق المالية لمشكلات سيولة وإعسار مما يستدعي تدخل السلطات المعنية لاحتواء تلك الأوضاع. وقد تأخذ الأزمة شكل أزمة مديونية أو أزمة عملات أو أزمة مؤسسات مصرفية، والأزمة الحالية شملت جميع هذه الأشكال، وقد تتمكن السلطات المختصة من احتواء الأزمة والحيلولة دون اتساعها، إلا أنها في الأزمة الراهنة، ورغم الاستعانة بالآليات والأدوات المعروفة أخذت بالاتساع والاستفحال.
والأزمات المالية على هذا النحو، ليست غريبة عن طبيعة النظام المالي العالمي وهي تحدث متكررة وبوتائر متسارعة، والتاريخ الاقتصادي يحفل بالحديث عن الأزمات المالية والاقتصادية، ونظراً لطبيعة الأزمة الراهنة سنتناولها بشيء من التفصيل.
فهي نشبت، كما قلنا، في قلب المركز الرأسمالي العالمي، وهو أكبر وأغنى اقتصاد عالمي، انطلاقاً من (وول ستريت) لكن وصف الأزمة على هذه النحو أي من كونها انطلقت من مركز الرأسمالية الاحتكارية العالمية، ثم امتدت إلى باقي المراكز الرأسمالية وإلى اقتصادات العالم الثالث. قد يوحي هذا الوصف بالابتعاد عن التوصيف الحقيقي، ذلك أن مقدمات ومسببات هذه الأزمة التي بدأت بالولايات المتحدة (وفي قطاعها المالي أولاً) موجودة أيضاً في البلدان الرأسمالية كافة، إذ أنها تتأصل في اقتصادات البلدان التي تتحكم بها سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وإن تفاقم التناقضات الكامنة، أدى إلى انفجار الأزمة في الولايات المتحدة قبل غيرها بسبب مغالاة بعض حكامها وتطرفهم في تطبيق سياسات الليبرالية الاقتصادية، التي قادت إلى فوضى السوق واضطراباته انطلاقاً من أوهام قدرة السوق على إصلاح الاختلالات. في الوقت الذي يتصدون فيه للدور الذي أعطوه لأنفسهم، أي قيادة العالم.
وبالعودة إلى الأزمة الراهنة وانطلاقها من (وول ستريت)، نجد أنها مرَّت بالمراحل التالية:
1 – المرحلة الأولى: التمويل العقاري:
اتبع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سياسة الفوائد في مواجهة التضخم وبهدف ضبطه على حساب إطلاق الاقتصاد. وأمام فائض السيولة المتوافرة في المصارف، تم اللجوء إلى التوسع في الإقراض العقاري على نحو تجاوزت فيه المصارف أصول التسليف وشروطه خاصة ما يتعلق بدخل المقترض وقدرته على السداد، معتمدة في ذلك على أن قيمة العقار المؤمن عليه كفيلة بضمان القرض، خاصة مع تصاعد القيم العقارية، مما نجم عن ذلك الإفراط في منح القروض العقارية.
2 – المرحلة الثانية: تضخم حجم التمويل:
قامت المصارف (مباشرة أو عن طريق مؤسسات متخصصة) بتجميع القروض العقارية ضمن محافظ وأصدرت بموجبها سندات مالية ذات ريع مُغرٍ، وعمدت إلى بيع هذه السندات إلى مصارف ومؤسسات أخرى لتقوم هذه بدورها ببيعها إلى زبائن.. أفراد أو شركات تأمين أو ادخار، وقام بعضها باستعمال السيولة الناجمة عن عمليات بيع هذه السندات لإعادة تمويل قروض عقارية جديدة، وهكذا تضخم حجم التمويل ليبلغ أرقاماً حيالية، قدرها بعض المحليين لدى مصرف (ليمان براذرز) مثلاً بحوالي 700 مليار دولار.
3 – المرحلة الثالثة: ظهور بوادر العجز:
عمد الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (المصرف المركزي الأميركي) حفاظاً على مستوى التضخم ومنعاً لارتفاعه إلى رفع سعر الفائدة، مما أدى إلى زيادة أعباء سداد الديون العقارية على أصحاب الدخل المتوسط والمحدود. وبدأت بوادر التوقف عن الدفع واسترداد الأملاك العقارية. ومن أجل درء مخاطر السندات، تم إصدار سندات تأمينية مضادة بحيث تدفع عندما يتعثر دفع القرض العقاري، وبالتالي يتأخر سداد السندات العقارية فتتهافت المصارف على شرائها.
وقد رُفعت الأنظمة المصرفية الائتمانية بناء على طلب من المصارف الاستثمارية منذ عام 2004 (وكان من المطالبين برفع هذه الأنظمة وزير الخزانة الأميركي حتى نهاية عهد بوش الذي كان وقتذاك رئيساً لمجلس إدارة مصرف غولدمان ساكس). وبلغت قيمة السندات المتبادلة بين المصارف ما يقارب مجموعه 60 تريليون دولار. وقد شبه أحد الاقتصاديين الأميركان ذلك بأنه أشبه بـ (أسلحة الدمار الشامل).
4 – المرحلة الرابعة:
وهي ما وصلت إليه الأمور حيث بدأت كرة الثلج بالتدحرج. إذ توسعت الأزمة، فقد رافق استرداد العقارات أمران:
– الأول: إتلاف عدد من المالكين المقترضين للعقارات، عمداً، قبل التخلي عنها.
– والثاني: أن المصارف المقرضة واجهت أزمة تصريف هذه العقارات نظراً لتعددها وكثرة ما عرض منها في الأسواق في وقت واحد، وارتفاع فوائد التسليف لإعادة بيعها. فوجد الأفراد والمؤسسات والمصارف الاستثمارية الذين اشتروا السندات التي تمثل المحافظ العقارية أنفسهم أمام أوراق مالية دون إيراد، وقد فقدت نسبة لا يمكن تقديرها من قيمتها.
وكانت النتائج كارثية أصابت جميع المتعاملين من زبائن أفراد ومصارف متخصصة ومصارف استثمارية ومؤسسات.
فالمصارف المعفاة من تطبيق الأنظمة الائتمانية، قامت بإقراض زبائن لها لغاية خمسة أضعاف موجوداتهم ليتمكنوا من شراء محافظ الأسهم والسندات، فأمام كل مليون دولار استثمار يملكه الزبون كانت تسلف لغاية خمسة ملايين، مثلاً، لاستثمارها في السندات، ولم يَعُد بإمكانها تحصيل قيمة ما أقرضته لعدم قدرتها على تحصيل قيمة السندات المستثمرة وبيعها.
أما الزبائن فكانت خسارتهم شاملة لمبلغ استثمارهم الأساسي، مضافاً إليه تعرضهم للملاحقة لدفع رصيد القروض الممنوحة.
وتراكمت الخسائر لدى المصارف جراء السندات التي فقدت قيمتها من جهة، وبسبب توقف الزبائن عن دفع القروض من جهة ثانية. مع التورط الذي وقعت به المصارف في ذلك، إلى جانب النقص في السيولة، بدأت تمتنع عن تداول السيولة اليومية وتبادل القطع الضروريين لتسيير الاقتصاد العالمي.
ولم يقتصر الأمر على المصارف الأميركية، ففي ظل العولمة الاقتصادية وحرية حركة الأموال، امتدت الأزمة إلى مصارف أوربا والخليج العربي وإلى حيث يوجد رأسمال استثماري.
ولم يقتصر انهيار قيمة السندات العقارية عليها فقط، إنما امتد ذلك إلى غيرها من السندات والأسهم والأوراق المالية. فقد طلبت المصارف التي تمول زبائنها لقاء السندات العقارية من هؤلاء تأمينات إضافية أو تسديد قيمة القروض الممنوحة. فلجأ عدد كبير منهم إلى تسييل محافظهم الاستثمارية عن طريق بيع ما تيسر لهم من سندات وأوراق مالية أخرى في الأسواق العالمية، مما أدى إلى انهيار الأسواق المالية في أنحاء العالم. وشمل الانهيار مصارف التمويل الاستهلاكي وبطاقات الدفع وبطاقات الائتمان المرتبطة بحالة المستهلك الأميركي المادية وانعكاسها على الاستهلاك في أوربا وغيرها من بلدان العالم.
وكان ملخص التداعيات:
1 – سقوط قيم السندات والأسهم والأوراق المالية، وتدني القدرة الشرائية والاستثمارية لشريحة واسعة من المستثمرين والموظفين والمواطنين الذين فقدوا بين ليلة وضحاها ثرواتهم.
2 – انخفاض السيولة المتداولة في الأسواق.
3 – توقف عمليات التسليف والإقراض نتيجة لفقدان الثقة.
والأهم من ذلك كله، انتقال الأزمة من القطاع المالي إلى القطاع العيني أي إلى القطاع الاقتصادي الحقيقي، مما يوحي بدخول الاقتصاد العالمي إلى نفق الركود. وما يمكن أن ينجم عنه من آثار اقتصادية واجتماعية تلحق الضرر بمعيشة ملايين البشر في جميع أنحاء العالم وخاصة في بلدان العالم الثالث.
يصف (بن بيرنانك) رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، المشهد المالي والاقتصادي في الولايات المتحدة بعد انكشاف الأزمة على النحو التالية([1]):
«الانقباض في النشاط الإسكاني الذي بدأ عام 2006، وما ترافق معه من تدهور في سوق الرهن العقاري، والذي أصبح واضحاً في العام 2007، قاد إلى خسائر ضخمة في المؤسسات المالية، وإلى تضييق حاد في الظروف العامة للائتمان، تأثيرات الانقباض الإسكاني والرياح المالية غير المواتية في النشاط الانفاقي والاقتصادي تضاعفت بسبب التزايد في أسعار الطاقة وباقي السلع، وهذا ما أنهك القوة الشرائية للأسر، وزاد في معدلات التضخم، قبالة هذه الستارة، فإن النشاط الاقتصادي تقدم بخطوات بطيئة خلال النصف الأول من هذا العام (2008) بينما حافظ التضخم على ارتفاعه».
ويمضي (بن بيرنانك) قائلاً:
«الاقتصاد يواجه باستمرار العديد من الصعوبات من ضمنها الإجهاد الحالي في الأسواق المالية، أسعار المنازل المتهاوية، سوق العمل الذي يضعف والأسعار المرتفعة للنفط والغذاء، والسلع الأخرى.. الأداء الفاسد للرهن الجانبي في الولايات المتحدة أثار المشاكل في الأسواق المالية الداخلية والعالمية، في الوقت الذي أصبح فيه المستثمرون أقل رغبة بشكل واضح في تحمل مخاطر الائتمان من أي نوع.. العديد من المؤسسات والأسواق المالية ترزح تحت ضغط كبير جزئياً بسبب التوقعات الاقتصادية وبالتالي التوقعات لطبيعة الائتمان تبقى غير مؤكدة..».
وفي حين، كانت التقارير الاقتصادية في المؤسسات الدولية تشير إلى توقع تعرض النمو الاقتصادي العالمي إلى بعض التراجع عام 2009، فإن تقرير الأمم المتحدة الذي صدر مؤخراً حول وضع الاقتصاد العالمي الراهن وتوقعات عام 2009([2])، يعتبر أن: «الاقتصاد الدولي في وحل أسوأ أزمة مالية منذ الكساد الكبير في عام 1929». ويتوقع، وفقاً لسيناريو خط الأساس، أن يسجل نمو الناتج الإجمالي العالمي معدلاً ضعيفاً نسبته واحد في المئة خلال عام 2009، وهو يمثل تباطؤاً حاداً مقارنة بنسبة نمو (2.5%) التي كانت مقدرة لعام 2008، وأقل من نسب النمو القوية للأعوام السابقة.
ويتوقع تقرير الأمم المتحدة أن ينخفض ناتج الدول المتقدمة بنسبة 0.5% عام 2009، وأن يتباطأ معدل النمو لدى الاقتصادات التي تمر بمرحلة تحول إلى 4.8% مقارنة بمعدل 6.9% عام 2008، بينما يتباطأ نمو ناتج الدول النامية من معدل 5.9% (2008) إلى 4.6% هذا العام.
لكن التقرير يتحدث عن احتمال آخر، وهو أكثر تشاؤماً في ضوء حالة عدم اليقين السائدة حالياً، فإذا استمرت حالة الجمود في أسواق الائتمان الدولية ولم تتم استعادة الثقة في القطاع المالي بسرعة، فإن الدول المتقدمة قد تدخل في حالة من الركود الاقتصادي (العميق) مصحوبة بانخفاض الناتج المحلي والإجمالي حوالي 1.8%، كما سيتباطأ النمو الاقتصادي في الدول النامية إلى 2.7%، وهو معدل خطير للانخفاض في ضوء تأثيره السلبي على قدرات تلك الدول في الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي لديها.
وقد شهدنا في الأيام الأخيرة الإعلان عن دخول العديد من الدول المتقدمة في حالة الركود، وكان آخر تلك الإعلانات ما نشر عن دخول الاقتصاد البريطاني حالة الركود رسمياً، مما يفسر حالات الإفلاس الواسعة التي تعرضت لها المؤسسات المالية العملاقة في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان خاصة، كما يفسر حالات تصاعد معدلات البطالة وتعرض مؤسسات الاقتصاد العيني للإفلاس والإغلاق، وتسريح أفواج جديدة من العمال.
تفسير ما حدث:
لقد جرى ذلك كله في عصر العولمة المالية الذي بدأ مع تصاعد الدعوة إلى الانفتاح وتحرير الاقتصاد وحرية حركة رأس المال، فخلال العقود الثلاثة الماضية، حدثت تحولات هامة على صعيد العلاقات الاقتصادية والمالية الدولية في ظل سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، أفرزت أجواء عولمية فرضت ما دُعي بـ (العولمة المالية).
وقبل الحديث عن العولمة المالية، لابد من إيضاح ما نعنيه بالتحولات الحاصلة المالية، تلك التحولات التي تمثلت في:
1 – ظهور المشتقات المالية: التي اتسع نطاق استخدامها وتعددت أنواعها بعد انهيار نظام (بريتون وودز) في مطلع السبعينات من القرن الماضي، والمشتقات المالية عبارة عن عقود مالية تستند قيمتها إلى أوراق مالية قابلة للتداول، وكذلك إلى أسعار الفائدة أو أسعار صرف العملات أو مؤشرات الأسواق (البورصة مثلاً) وتشمل المشتقات المالية: المستقبليات والخيارات والمبادلة… إلخ.
2 – ثاني هذه التحولات هو ما شهده العالم من تقدم تكنولوجي وخاصة في مجالات الاتصالات والمعلوماتية والمواصلات.
3 – وقد شهد العالم أيضاً تصاعد عمليات الإبداع في مجال الأعمال وظهور صيغ جديدة من أشكال الشركات كالشركات القابضة والشركات التابعة لأغراض معينة.
4 – وإلى جانب هذا تصاعدت هيمنة الفكر الليبرالي الجديد المتمثل في (إجماع واشنطن) الذي تجسد في برامج التثبيت والتكيف الهيكلي برعاية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحكومة الولايات المتحدة.
وقد نجم عن هذه التحولات كيانات مالية ذات مواصفات خاصة، فهي مؤسسات مالية عملاقة ومتشابكة تتمتع بقدر هائل من حرية الحركة والمناورة، وقادرة على خلق السيولة بعيداً عن الرقابة الفاعلة من جانب أية سلطة، ويأتي في مقدمة هذه المؤسسات ما يدعي بـ (صناديق التحوط) التي تدير أموالاً هائلة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات، ومن أمثلتها (شركة استثمارات الأمانة) وهي مؤسسة مالية أميركية يعادل حجم الأموال التي تديرها على مستوى العالم القيمة الرأسمالية للتداول في الأسواق المالية في الاقتصادات الناشئة مجتمعة، ويأتي في هذا الإطار (الصناديق السيادية).
إن وجود هذه المؤسسات العملاقة يعني أن الأسواق المالية لم تعد تعمل في عالم المنافسة، إنما أصبحت تعمل في عالم يغيب فيه القانون، وتغيب فيه الرقابة، عالم تحكمه شريعة الغاب حيث البقاء للأقوى.
فضلاً عن هذا، فإن هذه المؤسسات العملاقة، أصبحت تعمل في مختلف الأعمال وتمارس مختلف الأنشطة في وقت واحد، فهي تعمل في النشاط المصرفي والتأميني وتداول الأوراق المالية وإدارة المحافظ المالية.. إلخ.
إن التداخل بين الوحدات المختلفة المكونة لهذه المؤسسات أصبح من الكثافة والتشعب والانتشار بحيث جعل إمكانية متابعته ومراجعته والتحكم بمساراته عملية في غاية التعقيد والصعوبة، خاصة وإن أنشطة هذه المؤسسات أصبحت تتخطى الحدود السياسية بفضل تحرير حركة رأس المال.
إضافة إلى ذلك، وهذا مهم جداً، أن التعاملات المالية أصبحت بمعظمها، تتم خارج الأسواق المنظمة، وبالتالي فقد أصبح نطاق التحكم والسيطرة محدوداً إن لم يكن منعدماً، وفي تقدير لبنك التسويات الدولية، أوضح أن حجم المعاملات المالية خارج الأسواق المنظمة بلغ حوالي 600 تريليون دولار، علماً أن هذه المعاملات لا تظهرها القوائم المالية للمصارف والمؤسسات المالية، كما أنه على سبيل المقارنة، فإن حجم النشاط الحقيقي ممثلاً في الناتج المحلي للعالم يقل عن 60 تريليون دولار في العام.
يضاف إلى هذا هناك أيضاً، المعاملات المالية التي تتم من خلال المراكز المالية المغتربة (Off Shore Financial Centers) والتي لا تخضع لأية رقابة خارج الولايات المتحدة. وقد بدأت هذه الإصدارات بأدوات مالية فيما يدعى (يورو دولار) ثم تجاوزت أوروبا إلى اليابان وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية، ولكنها احتفظت بنفس التسمية فأصبح هناك (اليوروبوند واليورو ماركت). إن هذه الإصدارات لا تخضع لأية ولاية، وهي بالتالي قادرة على خلق السيولة دون رقابة.
إن جميع هذه التحولات تتم في إطار العولمة المالية، مما يجعلنا نتوقف قليلاً لنبين على عجل السمات الخاصة بالعولمة المالية لارتباطها الوثيق بما جرى ويجري استكمالاً لبيان الخلفية التي حكمت تصاعد الأزمة المالية العالمية.
ويمكننا أن نقف على سمات خمسة للعولمة المالية لها علاقة مباشرة بما حصل:
السمة الأولى: تتمثل في النمو الهائل للتدفقات الاستثمارية الأجنبية لكن مع التمييز ما بين الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) والاستثمار الأجنبي غير المباشر (FPI) فالأول ينطوي على إقامة طاقات إنتاجية حقيقية على أرض الواقع، أما الثاني فهو عبارة عن أموال سائلة تتحرك لأجل قصير وبسرعة كبيرة جداً، والمتتبع لتدفقات رأس المال عبر الحدود يجد على أن حركة رأس المال (الطيار) أصبحت بديلاً على نحو متزايد، عن الاستثمار المباشر، وهذه الحركة التي تحركها اعتبارات المضاربة والمرابحة، ترتبط بالتحرير المالي في إطار سياسات الإصلاح والتكيف الهيكلي التي تنادي بها المؤسسات الدولية، فضلاً عن ارتباطها بتحرير تجارة الخدمات المالية طبقاً لاتفاق منظمة التجارة العالمية.
السمة الثانية للعولمة المالية: هي الزيادة السريعة في معاملات الأوراق المالية عبر الحدود. وهي ليست حركة أموال عبر الحدود، إنما هي حركة أوراق مالية عبر الحدود، والحركتان مرتبطتان، إلا أن لكل منهما خصائصه وطرقه، وهذه الحركة تتقاطع مع أسعار الصرف وأسعار الفائدة، إن حركة الأوراق المالية عبر الحدود، تعني وجود قنوات اتصال بين الأسواق المالية في مختلف الدول، مما يعني أن أية مظاهر سلبية تصيب أحد هذه الأسواق سوف تنتقل إلى باقي الأسواق في البلدان الأخرى.
السمة الثالثة: هي تصاعد التعامل في أسواق العملات العالمية بوتائر أسرع كثيراً من نمو التجارة العالمية، ويقدر حجم التعامل في النقد الأجنبي على المستوى العالمي بما يصل إلى 100 ضعف حجم التجارة الدولية، وفي التقديرات الأخيرة أن حجم التعامل في النقد الأجنبي لجميع الأغراض على المستوى العالمي يتراوح ما بين 500 إلى 700 تريليون دولار. في حين أن حجم التجارة العالمية (سلع وخدمات) يقدر بحوالي 7 تريليون دولار سنوياً، ويفسر ذلك بالأهمية المتنامية لحركة رؤوس الأموال الساخنة ولحركة الأوراق المالية عبر الحدود.
السمة الرابعة: هي الارتباط المتزايد بين مؤشرات أسعار الأسهم في الأسواق الصاعدة ومؤشر (نازاك) أي مؤشر أسعار أسهم شركات التكنولوجيا المتقدمة في الولايات المتحدة. وهذا الارتباط يزداد قوة مع الزمن، فالقنوات أصبحت مفتوحة وتزداد اتساعاً بين هذه الأسواق التي أصبح اللاعب الرئيسي فيها هو مؤسسات مالية عملاقة ومركبة.
السمة الخامسة: هي تصاعد التعاملات في المشتقات المالية، خاصة ما يسمى بالعقود المستقبلية والخيارات. وأهمية التعامل بالمشتقات تنبع من كونها تتداول طبقاً لما يسمى (التعامل بالهامش) مما يتيح للمتعامل مضاعفة ما لديه من أموال في عمليات متعددة، فيما يدعى الرافعة المالية، فبقدر يسير من رأس المال المملوك يمكن السيطرة على أضعاف مضاعفة من الأموال. ومعدل الربح في هذه الحالة، لا يتحقق من رأس المال المملوك، بل يتحقق عن طريق رأس المال المضاعف الذي تديره المؤسسة المالية.
الخلاصة: هي أننا أمام معطيات جديدة، تتمثل في تزايد التعامل في المشتقات بواسطة مؤسسات عملاقة ومركبة، في أسواق مغتربة بصورة متزايدة، وفي أسواق غير منتظمة بصورة متنامية، تتضمن رافعة مالية كبيرة جداً، مما يعني أن هناك (كيانات) ضخمة أصبحت قادرة على خلق سيولة، وإن هذه السيولة تتم بمعدلات لا يمكن التهوين من شأنها أو الاستهانة بها، مما يؤدي إلى تعاظم احتمالات وقوع الأزمات المالية التي يعجز النظام المالي العالمي بآلياته التقليدية عن مواجهتها. وهذا يعني أن هذا النظام أصبح يعاني من عيوب بنيوية تفرز بدورها الأزمات المالية. والأزمة المالية الراهنة هي الإفراز المعاصر لهذا النظام. الذي يعكس بدوره العيوب الهيكلية للنظام الاقتصادي العالمي، وللرأسمالية الاحتكارية الملتزمة بالليبرالية الاقتصادية الجديدة، التي تشكل جوهر النظام الاقتصادي العالمي.
المحور الثاني: واقع الاقتصاد الأميركي والسياسات الاقتصادية:
تدعونا تداعيات الأزمة العالمية الراهنة، إلى إلقاء الضوء على واقع الاقتصاد الأميركي، باعتبار أن هذه الأزمة تختلف عن الأزمات الاقتصادية الدورية السابقة، كونها نشأت في مركز الرأسمالية العالمية، ثم امتدت إلى باقي أنحاء العالم، لهذا نجد العديد من المحللين الاقتصاديين يشبهونها بأزمة الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي.
وكما سبق أن ذكرنا، فإن الأزمة الراهنة، وإن نشبت في قطاع الرهن العقاري، فإنها امتدت إلى القطاع المالي برمته، ثم إلى القطاع الاقتصادي العيني، وبالتالي فإن للأزمة جذورها التي بدأت منذ عدة سنوات، ولا تزال في طور الاستفحال ولعل أهم ملامح ومؤشرات الاقتصاد الأميركي، تشير إلى عمق الأزمة وعمق تأثيرها على هذه الملامح والمؤشرات التي تتمثل فيما يلي([3]):
1 – تصاعد العجز التجاري: فمنذ عام 1971 لم يسجل الميزان التجاري أي فائض، بل سجل عجزاً يزداد سنوياً حتى وصل عام 2007، إلى 759 مليار دولار، مما يعكس عدم قدرة الجهاز الإنتاجي (خاصة السلعي) على تلبية حاجة الاستهلاك المحلي، وهو يشير إلى خلل جوهري في بنية الاقتصاد الأميركي مرده التوجه نحو القطاعات الخدمية (بما فيها الخدمات المالية) على حساب القطاع العيني.
2 – تصاعد عجز الميزانية العامة: يتصاعد عجز الميزانية العامة سنوياً، حيث سيرتفع هذا العجز من 455 مليار دولار العام الماضي 2008 (انتهى في 30/9/2008) إلى 1.2 تريليون دولار للعام الحالي، بما يعادل 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي وهو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
ويتضمن العجز هذا العام الإعانة الضمنية التي يتم تقديمها لمرة واحدة من قبل وزارة الخزانة، على شكل حقن رأسمال وضمانات قروض بقيمة مخططة تبلغ 700 مليار دولار، وهذا المبلغ لا يشمل تكلفة الحوافز المخططة في برنامج الرئيس الأميركي الجديد (أوباما).
ويغلب الطابع العسكري على النفقات العامة، في حين يغلب الطابع السياسي على الضرائب، والإنفاق العام لا يستهدف التشغيل بقدر ما يستهدف تمويل العمليات الحربية الخارجية، في حين أن الضرائب تستخدم كوسيلة للحصول على أصوات الناخبين بدلاً من الحصول على إيرادات لتمويل العجز المالي.
3 – ارتفاع حجم المديونية: أظهرت إحصاءات وزارة الخزانة الأميركية ارتفاع الديون الحكومية (الإدارة المركزية، والإدارات المحلية) من 4.3 تريليون دولار عام 1990، إلى 8.4 تريليون دولار عام 2003 وإلى حوالي 8.9 تريليون عام 2007، وأصبحت هذه الديون العامة تشكل 64% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يصنف الولايات المتحدة ضمن الدول التي تعاني بشدة من ديونها العامة التي تعادل عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لجميع الدول العربية، كما تعادل ثلاثة أضعاف الديون الخارجية للدول النامية.
ولا يتوقف عبء الديون الأميركية على الإدارات العامة، بل إنه يشمل الأفراد والشركات أيضاً، فمسألة الدين والاستقراض والتقسيط أصبحت مسألة سلوك يومي للأميركيين، فقد وصلت مديونية الأفراد إلى 13 تريليون دولار بما يقارب الدخل القومي للولايات المتحدة، أما ديون الشركات فتحتل المرتبة الأولى من حيث الحجم إذ تصل إلى 18.4 تريليون دولار، إن مجموع الديون الأميركية (العامة والخاصة) يصل إلى أكثر من 40 تريليون أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعل مشكلة الديون بحد ذاتها من المشكلات الرئيسية التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي والمجتمع الأميركي.
4 – فضلاً عن هذه المشكلات، فإن الاقتصاد الأميركي يعاني من مشكلتين خطيرتين هما مشكلة البطالة ومشكلة التضخم. لقد خسر الاقتصاد الأميركي عام 2008 (3.6 مليون وظيفة) وهي تعد الخسارة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى رفع معدل البطالة إلى 7.5%([4]) وهي الأعلى منذ 26 سنة، لكن بعض البيانات الأخرى تشير إلى أن معدل البطالة الفعلي هو 16.5%.
أما التضخم، فهو يتصاعد محدثاً ضغطاً عنيفاً على حياة الناس وخاصة فئة الفقراء.
وتشير معظم البيانات إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وهو أحد نتائج السياسات المالية والاقتصادية التي سببت الأزمة وقد عبر عن ذلك الرئيس الأميركي الأسبق (كلينتون) في ندوة البنك الوطني الكويتي (تشرين الثاني 2008) حين قال:
«إن أحد أهم أسباب الأزمة المالية الحالية التي يعيشها الاقتصاد الأميركي والتي ألقت بظلالها على دول العالم أجمع، يرجع إلى أن 90% من الأرباح التي تم جنيها في السنوات الأخيرة ذهبت إلى 1% من الأميركيين فقط».
وتكمن المشكلة كما يقول كلينتون في «أن سنوات الرخاء التي شهدها الاقتصاد الأميركي لم تفلح في إيجاد الكم المطلوب من فرص العمل، ولم تحقق الرفاهية للجميع».
5 – تصاعد الإنفاق العسكري: ارتفع الإنفاق العسكري الأميركي إلى معدلات غير مسبوقة (لا تظهرها الموازنة المعلنة للبنتاغون) فقد تجاوزت كلفة حربي العراق وأفغانستان حسب الدراسة التي قام بها (جوزف ستغلتز) الـ 3 تريليون دولار. يستفيد المجمع الصناعي العسكري – النفطي – المالي منها على نحو مباشر وأساسي، ذلك أن الحروب مربحة جداً لشركات هذا المجمع.
وفي عام 2008 بلغت ميزانية البنتاغون حوالي([5]) 482 مليار دولار لتغطية الرواتب والعمليات (عدا العراق وأفغانستان)، وإلى جانب ذلك هناك مجموعة من النفقات مثل:
– تمويل القتال ضد الإرهاب (حوالي 142 مليار دولار).
– تمويل تكاليف حروب غير منظورة، (مثل حرب الصومال بواسطة أثيوبيا، حوالي 94 مليار دولار).
– وزارة الطاقة لصيانة الرؤوس النووية حوالي 24 مليار دولار.
– وزارة الخارجية للإنفاق على المساعدات الخارجية حوالي 25.3 مليار دولار.
– تطويع المجندين 1.3 مليار دولار.
– الإمداد الداخلي 46.4 مليار دولار.
– المخابرات الفيدرالية 1.9 مليار دولار.
– الجنود المتقاعدين 38.5 مليار دولار.
– النشاطات الجوية والفضائية 7.6 مليار دولار.
– فوائد على قروض سابقة للدفاع 200 مليار دولار.
وهكذا فإن الموازنة الحقيقية تصل إلى أكثر من تريليون دولار أي أكثر من ضعف الموازنة المعلنة للبنتاغون.
6 – تدهور أوضاع البنية التحتية: يشير إلى ذلك تقرير للرابطة الأميركية للمهندسين([6]).
يقول التقرير: بأن الرابطة تطالب منذ مدة بالاهتمام بالبنية التحتية المهددة بالانهيار، إن 30% من الجسور الكبيرة فيها قصور شديد، وفقدت صلاحيتها وتحتاج إلى إنفاق نحو 9.4 مليا دولار سنوياً لمدة عشرين عاماً لإصلاحها، وإن عدد السدود غير الآمنة في الولايات المتحدة ارتفاع بنسبة 33% حتى وصل إلى 3500 سد، وإن حالات المواصلات العامة (حافلات وقطارات أنفاق وسكك حديد) تزداد سوءاً بسبب زيادة الطلب عليها بنتيجة ارتفاع أسعار الوقود. وإن الميزانيات المخصصة لمياه الشرب تفي بحاجات نسبة بسيطة من الاحتياجات على المستوى القومي، ومخصصات الصرف الصحي لا تصل إلى الحد الأدنى الذي يؤمن الحفاظ على وضعها الراهن، أما النقل الجوي فإن النقص الشديد في مهابط الطائرات سبب 1.8 ساعة تأخير في مواعيد إقلاع الطائرات، وإعادة بناء المدارس الحكومية وإعادتها إلى واقع مقبول يحتاج إلى ربع تريليون دولار.
7 – تدني أداء قطاعات الاقتصاد الحقيقي: وخاصة الصناعة فقد تدنى نصيب الصناعة إلى 13% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ حوالي 14 مليار دولار. علماً أن قسماً كبيراً من هذا الناتج تولت إنتاجه البنية المالية الفوقية في الاقتصاد نتيجة المضاربات ونمو المشتقات المالية والمتاجرة بها (وهي على أي حال ثروات افتراضية).
ويلاحظ تراجع مردود قطاعات الاقتصاد الحقيقي إلى حوالي 6%، بينما وصلت الأرباح في القطاع المالي (خاصة صناديق التوظيف إلى حوالي 20%) كما ارتفعت أرباح الشركات في قطاع الخدمات المالية من 10% في بداية الثمانينات إلى 40% عند ذروتها عام 2007.
ولا يقتصر تراجع حجم الاقتصاد الحقيقي على الاقتصاد الأميركي، بل إنه ينسحب إلى باقي المراكز الرأسمالية، وكان ذلك نتيجة مباشرة للتحولات في طبيعة الاقتصاد الرأسمالي وتحوله إلى الاحتكار في ظل سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي استطاعت إعادة هيكلة الاقتصادات الرأسمالية الكبرى وتحويلها إلى ما دعاه البعض (عصر ما بعد الصناعة) الذي يعتمد على نحو أساسي على قطاع الخدمات لا الإنتاج الحقيقي، وخاصة على الأسواق المالية الحديثة وعلى قطاع المعلوماتية الشديد الارتباط بقطاع المال والاتصالات.
مؤشرات أخرى لحالة التأزم في الاقتصاد الأميركي:
وفي تقرير الكاتب الأميركي (تشارلي كويمبي) مؤشرات هامة لحالة التأزم التي يعيشها الاقتصاد الأميركي (قبل الإعلان عن الأزمة المالية الحالية) وجاء التقرير بعنوان (إرث رئاسة بوش البلد الذي ورثه، البلد الذي سيخلفه) وفيه مقارنة لأوضاع الاقتصاد الأميركي بتاريخ 20/1/2001 ولنهاية عهد بوش (20/1/2009) وفي هذا التقرير عدد من المؤشرات لعل أهمها:
– النمو الحقيقي للناتج خلال الأعوام الثمانية السابقة لولاية بوش الأولى، كان 4.09% في حين أنه بلغ من الأعوام السبعة الماضية في عهد بوش 2.65%.
– وبينما كان الدين الوطني 5.7 تريليون دولار، أصبح في وقت إعداد التقرير 9.2 تريليون دولار.
– وكان فائض الميزانية 431 مليار دولار خلال أعوام الميزانية الثلاثة السابقة لـ 2001، فأصبح العجز بقيمة 734 مليار دولار خلال الأعوام الثلاثة السابقة لنهاية عهد بوش.
– وبينما كان عدد الفقراء الأميركيين في بداية عهد بوش 31.6 مليون شخص أصبح في نهايته 36.5 مليون شخص.
السياسات الاقتصادية الأميركية ودورها في توليد الأزمة:
تمثل السياسات الاقتصادية الأميركية التي قادت إلى الأزمة جوهر أيديولوجية (الليبرالية الاقتصادية الجديدة) وهي بدورها (أي الأيديولوجية الليبرالية) تُعبر عن التطور الموضوعي في بنية الرأسمالية الأميركية.
ولنقف على حقيقة ما جرى، ويجري، في الاقتصاد الأميركي وسياساته الاقتصادية، وفي تداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي. لابد لنا من وقفة نستعرض بها الجوانب السياسية والثقافية، التي ولدت توجهات الاقتصاد والمجتمع الأميركيان، في ظل أيديولوجية الليبرالية الجديدة، التي فرضت وجودها السياسي والاقتصادي من خلال تحالف سياسي حمل لواءه ثلاثة تيارات:
التيار الأول: وهو اقتصادي، ويعبر عنه اليمين المحافظ الذي يهدف إلى إعادة الرأسمالية الأميركية إلى ما يدعوه (وضعها النقي) الذي كانت عليه قبل أن تعكره أنظمة فترة (العهد الجديد) ([7]) ومشاريع البيروقراطية وتدخل الدولة.
التيار الثاني: وهو تيار سياسي يضم (المحافظين الجدد) الذين يعملون عل إعادة صياغة العالم وفق نظام عالمي جديد يكرس الهيمنة الأمريكية على العالم، بحيث تبقى الولايات المتحدة قادرة على الدفاع عن هذا النظام إلى الأبد.
التيار الثالث: وهو تيار اجتماعي يضم تيار اليمين المسيحي الذي كان يطمح إلى سن قوانين وتشريعات جديدة تضمن بقاء المجتمع الأميركي كمجتمع مسيحي لا يسمح بالممارسات الفردية التي تهدد تماسك الأسرة وتضعف من سيطرة الكنيسة.
والتياران الثاني والثالث تربطهما علاقة وثيقة بالحركة الصهيونية وإسرائيل.
واستطاع هذا التحالف فيما بين التيارات الثلاثة بسط نفوذه وسيطرته على المؤسسات الدولية، فأصبح البنك الدولي يتصرف كذراع للبيت الأبيض، كما أصبح صندوق النقد الدولي يعمل كذراع لوزارة الخزانة الأميركية، ومن تلاقي الأطراف الثلاثة، ولد فيما بعد ما يدعي (إجماع، أو توافق واشنطن) الذي يتضمن (وصفة) التحول نحو اقتصاد السوق.
واتبع الجمهوريون (برئاسة ريغان) حال انتقال السلطة إليهم مع بداية الثمانينات ومن خلال برامج الليبرالية الاقتصادية الجديدة، السياسات الاقتصادية المناسبة للأيديولوجية الليبرالية، والتي تمحورت أساساً في توجهين أساسيين:
الأول: الانفتاح الاقتصادي وحرية السوق وتحرير التجارة الداخلية والخارجية.
والثاني: تخفيض الإنفاق العام وانسحاب الدولة من التدخل في الشأن الاقتصادي، وتخفيض الجوانب الاجتماعية من وظائف الدولة وصولاً إلى ما يدعى حكومة الحد الأدنى أو الحكومة الصغيرة.
واستوجب ذلك اتخاذ إجراءات محددة تمحورت حول:
1 – إلغاء الضوابط التي تنظم نشاط سوق المال: الأمر الذي أدى إلى تحرير أسواق المال، مما قاد إلى الفوضى والمضاربة، كما أدى إلى المبالغات الحاصلة في منح القروض العقارية، وظهور المشتقات المالية وإصدار السندات والبوالص الائتمانية عالية المخاطر. وكان من نتائج هذا (الانفلاش) الائتماني ظهور ما يدعي (الرهن العقاري تحت المستوى) وهي عقود رهن عقارية تباع بدون تدقيق في حالة المشتري المالية وقدرته على السداد. مما قاد إلى تزايد الطلب على البيوت ورفع أسعارها لحدود عالية لا تتناسب مع قيمتها الحقيقية، وبعد ذلك تقوم المؤسسة التي أصدرت الرهن ببيعه مؤسسة إلى مؤسسة ثانية التي تقوم بدورها ببيعه إلى مؤسسة ثالثة وهكذا إلى أن وصل الأمر إلى دخول السوق العقارية في الظاهرة التي تدعى (الفقاعة) وذلك يعني زيادة درجة المخاطر إلى حدود خطيرة.
2 – خصخصة المرافق العامة، وتحويل السلع إلى سلع خاصة: وقد طالت عمليات الخصخصة مرافق حيوية تخص الأمن القومي كما هو الحال في المرافئ والمطارات، وبعض النشاطات التي لها علاقة بالمجهود العسكري.
3 – تبني العقيدة العسكرية لحروب الصدمة والرعب: وتقضي هذه العقيدة، ببدء الحرب بعنف هائل يؤدي إلى تحطيم إرادة القتال عند (العدو) وقد تبنت إدارة بوش هذه العقيدة في حربها ضد العراق وأفغانستان، دون أن يكون لدى هذه الإدارة فكرة عما سيحدث بعد أن يتم تحطيم إرادة جيش (العدو) وفيما إذا كان ذلك يعني تحطيم إرادة الشعوب في الدفاع عن نفسها.
تضافرت هذه العوامل الثلاثة في إطار سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، في إحداث تغيير شامل في الاقتصاد والمجتمع الأميركيين، وقد نجم عنها انتشار واسع (للمغارات) الاقتصادية والعسكرية في الداخل والخارج على السواء، كما نجم عنها اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وكانت المرحلة بكاملها (منذ مطلع الثمانينات) مرحلة أزمات متوالية.
وقد خاضت الإدارة الأميركية حربها الطويلة ضد الإرهاب بعد أحداث 11/9/2001 بذات الأسلوب الذي اتبعته صناديق المال الأميركية بعد تحريرها من القيود التي كانت تنظم نشاطها قبل الثمانينات من القرن الماضي، فقد تصرفت هذه الصناديق على أساس أنها المرجع المالي الوحيد في العالم، تماماً كما تصرفت إدارة بوش على أساس أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم المسؤولة عن قضايا الحرب والسلام، ويحق لها (بتفويض إلهي) تصنيف الشعوب والدول بين دول إرهابية أو داعمة للإرهاب، ودول معادية للإرهاب، أو بين دول ديمقراطية وأخرى دكتاتورية، وبين قوى الشر وقوى الخير. وكما أخذت المؤسسات المالية الأميركية على عاتقها خلق السيولة، وإصدار سندات وبوالص الائتمان، التي تعتمد على أموال الآخرين، كذلك عمدت إدارة بوش إلى شن حروبها الطويلة ضد الإرهاب، وضد أفغانستان والعراق اعتماداً على الاقتراض من الخارج وليس بتمويل دافعي الضرائب.
المحور الثالث: الأزمة من حيث كونها أزمة النظام الرأسمالي الاحتكاري الملتزم بأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة:
وصف (آلان كرينسبان) المحافظ الأسبق للمصرف المركزي الأميركي (الاحتياطي الفيدرالي) الأزمة المالية في بدايتها، بأنها «تسونامي ائتماني لا يحصل إلا مرة في القرن» وفي وصفه لما حدث أمام الكونغرس الأميركي، قال بأنه أُصيب بالذهول من هول ما حدث، علماً أنه كان من بين المخططين والمنفذين لسياسة الإقراض بلا ضمانات ورفض الرقابة على المؤسسات المالية، وهو يعتبر من أركان النيوليبرالية، وما تفسيره، مع غيره من الليبراليين الجدد، للأزمة على أنها مجرد ظاهرة طبيعية تشبه الـ (تسونامي) سوى رسالة مدروسة يقصد بها إيهام الناس في محاولة للتمويه، والبعد عن الأسباب الحقيقية للأزمة، ولقطع الطريق أمام الحلول الجذرية التي لابد لها من أن تستهدف طبيعة النظام الرأسمالي الاحتكاري الملتزم بأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة.
من المهم الإشارة إلى أن النظام الرأسمالي في البلدان المختلفة، ليس موحد القسمات وليس موحداً من حيث الشكل والمضمون:
فهناك الرأسمالية الأميركية (الأنغلوسكسونية) التي تدعي أن الأسواق قادرة على تصحيح الاختلالات وضبط إيقاع المتعاملين.
وهناك النموذج الأوروبي للرأسمالية الذي يعطي اهتماماً للالتزامات الاجتماعية.
وهناك الرأسمالية اليابانية التي تتجنب الفردانية المفرطة وتعطي أهمية لمسألة الانتماء للمؤسسة.
وهناك الرأسمالية الصينية التي ولدت في رحم النظام الشيوعي، وقد أطلق عليها الأميركان اسم الرأسمالية الاستبدادية.
والأصل في ذلك كله النموذج الاقتصادي الرأسمالي الذي وضع ملامحه آدم سميث، وأعطى فيه لقوى السوق الدور الأساسي في تحقيق التوافق بين العرض والطلب وبين الأجور والأرباح وبين الأجور والأسعار، والذي كان يأمل سميث من خلاله تحقيق المنافسة الكاملة (الذرية) التي توقع سميث أن السوق قادراً على تحقيقها، بحيث أن تأمين مصلحة المجتمع مرهون بفعل قانون المنافسة إلا أن الممارسات العملية في السوق قادت إلى غير ما توقع (سميث) فقد أدت إلى بروز حالات من الاضطراب والأزمات من خلال ما دُعي بالدورات الاقتصادية التي كانت تعصف بالاقتصاد، وتؤدي إلى البطالة والركود. فتزداد حدة الفوارق الطبقية بين فئة مالكة احتكارية محدودة العدد، وفئة فقيرة لا تملك، كثيرة العدد، وكان (سميث) قد حذر من ذلك حين قال: (لا يمكن بالتأكيد لأي مجتمع أن يكون مزدهراً أو سعيداً، إذا كان القسم الأكبر من أفراده فقيراً وبائساً).
ومنذ زمن سميث (1723 – 1790) سادت في المجتمعات الرأسمالية أنواعاً مختلفة من الاستغلال، سواء في داخل هذه المجتمعات، أم في علاقاتها مع الأطراف (بلدان العالم الثالث المستعمرة) حيث تم نهب ثروات هذه البلدان لتحقيق التراكم الرأسمالي الذي خدم في النهاية مصالح الاحتكارات مما يؤكد أن السوق كجهاز للثمن وكمجال للمنافسة الذرية، لا وجود له إلا في النظريات فالنظام الرأسمالي القائم (بمختلف أشكاله، وبنسب متفاوتة) ما هو إلا نظام للاحتكارات والأنظمة الرأسمالية المختلفة تتنافس فيما بينها وتحاول كل منها الحصول على أفضل الشروط في تعاملاتها الداخلية والخارجية، من أجل الحصول على أعلى الأرباح، بما يزيد من التراكم الرأسمالي للاحتكارات التي تكونت تاريخياً نتيجة التطور في النظام الرأسمالي ذاته، ومن خلال قوانين الرأسمالية ذاتها.
وكان من الطبيعي أن يتعرض هذا النظام للأزمات الدورية وغير الدورية، فضلاً عن الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار المجتمعي.
ولطالما تساءل الاقتصاديون (من مختلف المدارس) عن الأسباب التي تؤدي إلى الأزمات، وغالباً ما يلجأ هؤلاء إلى السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية، سواء في تفسير الأزمة (أية أزمة مالية أو اقتصادية) أو في البحث عن حلول لها.
وإذا كان الرئيس الأميركي الجديد (أوباما) قد وصف ما قادت إليه الأزمة الراهنة بالكارثة([8])، فإن (رافي باترا) الاقتصادي الأكاديمي الأميركي المعروف، تساءل في معرض بحثه عن الأزمات في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، عن حق، عن الأمر الذي حوّل الركود في عام 1930 إلى كارثة حقيقية غير متوقعة؟([9]).
والجواب لدى باترا هو أن تمركز الثروات الذي لم يسبق له مثيل قد وصل ذروته في عام 1929، وأن نسبة تمركز الثروات قد ارتفعت مرة أخرى في الثمانينات وقاربت بلوغ الدرجات الخطرة التي كان عليها في العشرينات.
لقد نظر (باترا) إلى الأزمة الاقتصادية بأنها حصيلة الاتجاهات المنتظمة لتوزع الثروات التي ترمي إلى جعلها متمركزة بأيد قليلة، وعندما يحصل ذلك يبدأ الطلب بالانخفاض التدريجي بالنسبة إلى العرض ويبدأ اتجاه الدورة الاقتصادية الطويلة الأمد إلى الهبوط. ويعتقد (باترا) بأن الدورات الاقتصادية ليست أمراً لا مناص منه، بل يمكن ضبطها والسيطرة عليها عن طريق اتباع سياسات اجتماعية خاصة تهدف إلى الحد من تمركز الثروات.
ويرى سمير أمين([10]) أن النظام الرأسمالي الحالي ليس نظام اقتصاد سوق، بل هو رأسمالية تجمعات احتكارية مالية، بعد أن يلحظ التصاعد الهائل في المبادلات المالية على حساب الاقتصاد الحقيقي. ففي حين كانت المبادلات المالية مخصصة أساساً لتغطية العمليات التي يفرضها الإنتاج والتجارة الداخلية والعالمية، أصبحت هذه المبادلات تفوق حجم الاقتصاد والعيني عشرات المرات، مما يشير إلى تعاظم دور الاحتكارات المالية، فكان لابد أن تنفجر الفقاعة بانهيار مالي، ترتسم خلفه أزمة الاقتصاد الحقيقي.
ويقوم النظام المالي الأميركي على خدمة الاحتكارات المالية العملاقة ومن أجل ذلك يظل متمسكاً بأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة وسياساتها القائمة على الإفراط بالسيولة، وتوجيهها للأغراض (غير المنتجة) في الاقتصاد الحقيقي، حيث تنصب على إعادة الإقراض المالي، وعلى تمويل الائتمان الاستهلاكي والعقاري والسكني، دون تحقيق قيمة مضافة موازية للزيادة في كميات النقود، ليس على مستوى الاقتصاد الأميركي فقط، بل على المستوى العالمي بأكمله، والنتيجة تعاظم حجم الكتل من الأموال الهائمة، التي تظل تدور حول أسواق المال في العالم تستثمر النقود من أجل الحصول على المزيد من النقود، ومن أجل المضاربة في أسعار المواد الأولية والغذائية، مما يؤدي إلى تمويل موجات تضخمية هائلة، مع ما يرافقه من تبديد لموارد كان بالإمكان استخدامها من أجل القضاء على الفقر الذي يكاد يطبق على العالم.
وتلعب السياسات الاقتصادية والمالية بخلفيتها الليبرالية الاقتصادية الجديدة دوراً أساسياً في تعميق الأزمة، باعتبارها سياسات تمت صياغتها أصلاً للمحافظة على مصالح الاحتكارات المالية التي عززتها تلك السياسات. مما أدى إلى شلل النمو الاقتصادي وشلل في البينية الإنتاجية.
وجاءت الحلول في الولايات المتحدة وغيرها من المراكز الرأسمالية، لتؤكد نفوذ الاحتكارات المالية التي تعمل على المحافظة على النظام القائم، مما سيفاقم من الأزمة وتداعياتها، ويعمق حالة الركود الذي سيتسبب في تراجع مداخيل العاملين من ذوي الدخل المحدود ويرفع من نسب البطالة، ويزيد من الهشاشة الاجتماعية ويعمق الفقر داخل المجتمعات الرأسمالية وفي بلدان الجنوب.
والسلطات السياسة في دول المركز الرأسمالية، لا تملك أي مشروع في مواجهة الأزمة سوى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، لذا فإنها بدلاً من أن تنظر إلى الأزمة كأزمة بنيوية هيكلية تتعلق بالنظام، راحت تتخذ من الإجراءات ما يسمح بضخ المزيد من السيولة في الأسواق المالية في محاولة لإنقاذ المؤسسات المالية والمصارف وصناديق النمو، وبالتالي كبار المستثمرين من تداعيات الأزمة والإفلاس، ولا يشير ذلك إلى تهدأة الأسواق وإعادة الثقة إلى النظام ومؤسساته، بانتظار أزمة أخرى ستكون أقسى وأسوأ.
والولايات المتحدة وهي المسؤولة عن الأزمة الراهنة، بسبب سياساتها المالية والاقتصادية المتطرفة في التزامها الأيديولوجي تجاه الليبرالية الاقتصادية الجديدة، شجعت المراكز الرأسمالية الأخرى في أوروبا واليابان، وحتى في الصين وغيرها على الانضواء تحت سقف المعالجات السطحية التي أشارت إليها عن طريق تقديم ما دعته حوافز تنشيط الاقتصاد وإنقاذ المؤسسات المالية والمصرفية (ولاحقاً مؤسسات الاقتصادي العيني المتمثلة في صناعة السيارات) عن طريق ضخ الأموال الطائلة في أقنية النظام الرأسمالي الاحتكاري.
وعندما عُقدت قمة (مجموعة العشرين) في واشنطن 15/11/2008 سبقها الرئيس الأميركي آنذاك (بوش) معلناً معارضة الولايات المتحدة لإجراء أي تغيير أساسي على النظام الرأسمالي([11])، موضحاً أن القمة ستعمل على إرساء أسس إصلاحات مستقبلية للنظام المالي، مؤكداً أن الأزمة الاقتصادية الراهنة ليست فشلاً لاقتصاد السوق الحرة.. والتدخل الحكومي ليس علاجاً عالمياً.
في حين طالبت روسيا قمة (مجموعة العشرين) بالإعداد لاتفاقيات بريتون وودز جديدة، كما ناشد الأمين العام للأمم المتحدة قادة (مجموعة العشرين) ألا يسمحوا بتحويل الأزمة العالمية إلى (مأساة إنسانية) لشعوب نحو 170 دولة فقيرة.
وقد سعت المؤسسات الدولية التي تهيمن أيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة على إداراتها إلى تقديم الحلول التي تنطلق بجوهرها من هذه الأيديولوجية في محاولة مفضوحة من أجل الحفاظ على النظام الرأسمالي الاحتكاري بقيادة الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، طالب([12]) (دوينيك ستروس – كان) مدير صندوق النقد الدولي، بأن تأتي المعالجة على النحو الذي يسمح للاقتصاد في الولايات المتحدة والعالم بأن (يعود) ليؤدي وظيفته في شكل طبيعي، وعلى أن تشمل المعالجة من خلال هذا المنهج ثلاثة عناصر: تأمين السيولة، شراء الأصول الهالكة، ضخ الأموال في المؤسسات المالية.
وفي ضوء هذه العناصر رحب (كان) بالخطوات (الجريئة) التي اتخذتها الولايات المتحدة، وطالب الاقتصادات المتقدمة الأخرى بإعداد خطط طوارئ تستند إلى هذه القواعد.
ماذا يمكن أن نستخلص من نتائج ودروس الأزمة العالمية الراهنة؟.
يمكن أن نلخص نتائج ودروس الأزمة في أربعة:
أولاً: أظهرت الأزمة عجز آليات وعفوية السوق عن مواجهة التحديات التي فرضتها الأزمة، كما بينت أن تحرير السوق يحمل في طياته مخاطر عديدة لن تستطيع مقولة (أن السوق تصحح نفسها بنفسها) أن تواجهها.
وقد آن الأوان لتبديد أوهام الليبرالية الاقتصادية الجديدة، بأن السوق قادرة على خلق التوازنات الاقتصادية. والاعتراف بأن لابد من وجود قوة من خارج السوق للخروج من الأزمة.
وقد اتضح منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي، أن الحكومة هي الملاذ الأخير، وهي القادرة على ضبط انفلات الأسواق، وهي القادرة على ضبط سلوك الرأسماليين، وتخليص الاقتصاد من جشعهم وطيشهم واستهتارهم.
وتبقى المسألة هنا هي دور الحكومة ولمصلحة من تؤديه؟ وما هي حدود هذا الدور ومداه وأهدافه؟.
وقد برهنت هذه الأزمة، والأزمات الأخرى المشابهة، أن تعظيم قدرة الأسواق،والرفع من شأن كفاءتها أمرٌ مبالغ فيه، فحرية السوق لن تقود إلى المنافسة الكاملة وإنما إلى الاحتكار، وقد أعاد ذلك طرح مستقبل النظام الرأسمالي على بساط البحث.
ثانياً: إن تحرير الاقتصاد، وتزايد نفوذ الشركات الاحتكارية، وتزايد دور الأسواق المالية، وضخامة الأموال وسيطرة سلوك (اقتصاد الكازينو) وحرية حركة الأموال في إطار العولمة، أصبح ذلك كله يشكل خطراً جسيماً على حركة الاقتصاد والنمو الاقتصادي عموماً في الدول المتقدمة، كما أصبح يهدد عملية التنمية في البلدان النامية، ولم يحقق هذا الانفتاح سوى الدفع باتجاه الانكماش والركود والفقر والبطالة، والفوضى والاضطراب فضلاً عما حققه ويحققه من تهديد للسلم الاجتماعي على المستوى الداخلي، وتهديد الأمن الدولي على المستوى العالمي.
ثالثاً: لقد أوضحنا سابقاً، كيف سارت الدول المأزومة إلى تخصيص مليارات الدولارات لحفز وتنشيط الاقتصاد، وكيف قامت بضخ الأموال الطائلة لدعم المؤسسات والشركات، وإذا كانت برامج الإنقاذ لم تنجح حتى الآن في الحيلولة دون (الكارثة) التي خلفتها الأزمة، فإننا لابد أن نتساءل عن من يتحمل تكلفة هذه البرامج في النهاية على فرض أنها ستنجح في إنقاذ اقتصادات تلك البلدان.
من الواضح أن عبء تكلفة برامج الإنقاذ ستلقى داخل البلدان المتقدمة على عاتق الفئات الفقيرة والمتوسطة، ومن جيوب دافعي الضرائب. ولكنها ستلقى أيضاً على شعوب البلدان الفقيرة، إذ ستحاول نقل أعباء برامج الإنقاذ على البلدان المنتجة للمواد الأولية (وخاصة النفط) مما يؤكد أن طبيعة النظام الرأسمالي الاحتكاري هي تحقيق الأرباح لفئة معينة وتعميم الخسائر على الآخرين وخاصة الفقراء وذوي الدخل المتوسط سواء في البلدان المتقدمة أم في البلدان النامية.
رابعاً: أظهرت الأزمة أهمية وضرورة إعادة النظر بالنظام الاقتصادي العالمي، وخاصة بالنظام النقدي والمالي العالمي، الذي فرضته الولايات المتحدة، منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، والذي أفضى إلى العولمة المالية المتوحشة، إن الحاجة اليوم أصبحت ماسة إلى إعادة بناء النظام المالي والنقدي على نحو يضمن ضبط حركة الأموال والمعاملات المالية، وقد بينت هذه الأزمة على أن مثل هذا النظام يجب ألا يوضع بمعزل عن البلدان النامية والبلدان الصاعدة، خاصة وأن الولايات المتحدة قد أخذت في حسبانها أن تقوم تلك البلدان (خاصة الدول النفطية والصين) بضخ الأموال في اقتصادها لمساعدتها على تنشيط هذا الاقتصاد والخروج من الأزمة، وعلى هذه البلدان ألا تنصاع إلى ذلك دون مقابل، ودون إشراكها بصياغة النظام المالي والنقدي الجديد.
ومنها ننتقل إلى المحور الرابع في هذه الورقة:
المحور الرابع: مصير النظام الرأسمالي:
بلغت تكلفة جهود الإنقاذ المالي التي قامت بها الإدارة الأميركية، نحو ثمانية تريليونات دولار، وذلك من خلال سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها خلال عام 2008 ومنذ بداية بروز المؤشرات الأولية ملازمة ووفقاً لما أوردته نيوزويك([13]) فإن هذا المبلغ يفوق مجمل المشاريع الفيدرالية الأساسية في الولايات المتحدة خلال القرن الماضي، بما في ذلك غزو العراق وخطة مارشال لإنقاذ أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يعادل أكثر من نصف الناتج المحلي الأميركي، كما أن هذا المبلغ يتخطى مجموع ما أنفقته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية (أي 3.6 تريليون دولار بحسب قيمة الدولار الحالية).
أما ما أنفقته الدول الأوروبية التسعة الرئيسية([14])، فإن دراسة قامت بها شركة(اندبندنت ستراتيجي) في لندن تقول أنها أنفقت مبلغ 3.36 تريليون دولار لدعم البنوك فقط، (علماً أن دعم البنوك في الولايات المتحدة بلغ 3.35 تريليون دولار)، وفي ذات الوقت فإن هناك خططاً في الولايات المتحدة وأوربا لإنقاذ صناعة السيارات.
إلى جانب هذا فإن البلدان الآسيوية (خاصة الصين والهند) تنضم إلى قائمة البلدان التي تحاول تحفيز الإنفاق الاستهلاكي والتجاري، كما وضعت اليابان خطة للإنقاذ في حين لا تزال الأسواق المالية في الخليج العربي تعاني من وقع الأزمة التي ستنعكس آثارها على جميع المرافق الاقتصادية والخدمية.
ومع تدهور أسعار المواد الأولية وانخفاض الطلب الاستهلاكي، فإن الدول النامية أصبحت ضحية للأزمة، وتتوقع منظمة العمل الدولية، أن نحو 200 مليون عامل معظمهم في الدول النامية سيدخلون حالة فقر مدقع([15]).
ورغم جهود الإنقاذ في جميع بلدان العام، فإن المؤشرات الأساسية تدل على تفاقم الأزمة وليس على بوادر حلها. ويعود السبب في ذلك برأينا إلى غلبة عنصر الشك وعدم اليقين والخوف، فضلاً عن أن لا أحداً كان يتوقع أن تكون الأزمة بهذا الحجم وبهذا العمق لكن قبل ذلك فإن المعالجات تتجه نحو معالجة الظواهر ولا تتجه نحو المعالجات الجذرية من زاوية أن الأزمة إنما هي أزمة بنيوية هيكلية تتعلق بطبيعة النظام.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الشكوك والمصالح الوطنية هي ما يسود علاقات الدول (الكبرى خاصة) فهناك عدد من المشكلات المتفجرة تخيم على هذه العلاقات، مثل سياسة الدفاع عن المصالح التجارية الوطنية على حساب الدول الأخرى التي زادت فيها حدة الركود، وكذلك الاتهامات الموجهة للصين مثلاً بأنها تتلاعب بقيمة عملتها من أجل زيادة صادراتها، وكمحاولة إنقاذ صناعة السيارات في الولايات المتحدة الذي تفسره اليابان بأنه يهدد صناعتها، وبوجه عام فإن سياسة التحفيز الوطنية الهادفة إلى دعم المنتجين المحليين متهمة بأنها لا تتفق مع سياسة الانفتاح التجاري وأهداف منظمة التجارة العالمية ومع ذلك هناك من يشكك بجدواها ما لم تصل إلى مبالغ خيالية، يقدرها البعض بـ 4 تريليون دولار أميركي، أي ما يساوي 7% من الناتج الإجمالي العالمي، وبمعنى آخر زيادة الجهود الحالية بمقدار سبعة أضعاف([16]).
وفي خضم هذه المناوشات والاتهامات والاقتراحات يزداد فقر الفقراء وتتسع دائرة الفقر وتتزايد البطالة ويعلن عن إفلاسات وإغلاق للمصانع في جميع أنحاء العالم. وثمة دلائل على أن هذه الأزمة وما ولدته من ضائقة اقتصادية سوف تُنمي المشاعر الوطنية المتطرفة، وتهدد الاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي. مما أعاد من جديد التساؤل حول مسؤولية النظام الرأسمالي وحول مستقبل هذا النظام ومصيره، وبذات الوقت يطرح التساؤل حول مصير العولمة ودعاتها والمنادين بالانضواء تحت لواء الليبرالية الاقتصادية الجديدة والالتحاق بالاقتصاد العالمي، إذ لا يزال هناك بيننا من ينادي بالالتحاق بالاقتصاد العالمي رغم أزمته، كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة.
وقبل الحديث عن مصير النظام الرأسمالي لابد لي من إبداء الملاحظات التالية:
1 – ونحن نتحدث عما سيؤول إليه النظام الرأسمالي في المستقبل، علينا أن نبعد عن منطق التنبؤ أو التمني، البعيدين كل البعد عن الموضوعية العلمية.
2 – كما سبق أن ألمحنا، لا يوجد نظام رأسمالي واحد وموحد، بل أن هناك رأسماليات متوطنة في البلدان المختلفة، تحكمها سياسات اقتصادية ومالية واجتماعية تنبع من التجارب الخاصة والطبيعة الخاصة بكل بلد، وهذا لا يتعارض مع وجود قوانين عامة تحكم جميع أنواع الرأسماليات.
3 – في بحثنا عن مصير النظام الرأسمالي، فإننا نقصد النظام الرأسمالي الاحتكاري المعولم بقيادة وإدارة الولايات المتحدة الأميركية، لهذا فالحديث عن مصير هذا النظام يشمل الحديث أيضاً عن مصير النظام العالمي القائم، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
4 – النظام الرأسمالي، بوجه عام، تعرض للعديد من الأزمات، وطرأت عليه العديد من التحولات، ولكن ما يميزه أنه استطاع في كل مرة أن يجدد نفسه، وأن يدخل إلى آلياته التعديلات التي تقتضيها مهمة استمراره وتطوره، وكان في كل مرة يخرج أقوى من قبل.
5 – لا يقتصر مفهوم الرأسمالية على فكرة السوق، وإنما يذهب إلى جوهرها في السلطة فيما وراء السوق، فالسوق تعمل، عندما تترك لذاتها، على تحقيق (التوازن الأفضل) وهذه حالة نظرية بحتة، أما في حالة الرأسمالية القائمة بالفعل، فلا يمكن الفصل بين صراع الطبقات والسياسة والدولة ومنطق التراكم الرأسمالي.
والرأسمالية بطبيعتها نظام تتكرر فيه حالات الاختلال، بسبب المواجهات الاجتماعية والسياسة الكامنة فيما وراء السوق.
لهذا سنتحدث فيما يلي عن:
آ – مصير النظام الرأسمالي.
ب – مستقبل النظام الاقتصادي العالمي.
آ – مصير النظام الرأسمالي:
كثيراً ما سمعنا، وقرأنا، من يصف الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، بأنها كارثة!! فلماذا هي كارثة؟ وإلى أين ستقود؟.
يقول (كارل بولايني) ([17]): «أن منشأ الكارثة يكمن في المسعى (البوتوبي) لليبرالية الاقتصادية لإقامة نظام سوقي قادر على تنظيم نفسه بنفسه».
وقد عبر سميث عن خشيته من تطور الرأسمالية المنافسة إلى رأسمالية احتكارية، وهذا ما حذر منه حين قال([18]): «حيثما توجد ملكية كبيرة يوجد عدم مساواة.. إن الوفرة لدى الغني، تفترض فقر الكثيرين».
وقد تبلور النظام الرأسمالي من خلال تشريعات جديدة للعلاقات الدولية في مؤتمر فيينا (1815) في أعقاب الحروب النابليونية، حيث أطلقت تلك التشريعات عجلة الفتح الاستعماري للأسواق العالمية، على قاعدة الشراكة في تقاسم النفوذ بين الرأسماليات الأوربية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ومنذ ذلك الوقت، والنظام الرأسمالي موضع تساؤل يتصاعد كلما دخل النظام الرأسمالي في أزمة، كهذه الأزمة، فالبعض من المفكرين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين، تنبأ بسقوط الرأسمالية في حين قال البعض الآخر بأن هذا النظام يمتلك من الآليات والوسائل ما يجعله قادراً على تطوير نفسه والاستمرار، في حين أن آخرين طالبوا بإجراء التسويات التاريخية من خلال حقوق جميع الأطراف (العمال – أصحاب العمل – الدولة)، الأمر الذي شكك في إمكانياته العديد من المفكرين، ومنهم ماركس، فقد رأى أن المساواة بين رب العمل والعمال تجعل الأرباح كلها تذهب لرب العمل.
لقد أظهرت الماركسية بجلاء تناقضات الرأسمالية، ويرى ماركس([19]): أن «الرأسمالية غير المقيدة والجشعة ستلتهم نفسها في النهاية»، ذلك أن التطور لن يقف عن حدود النظام الرأسمالي، إذ أن تطور أدوات الإنتاج لن يلبث أن يجعل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية عقبة في سبيل التطور. نتيجة للتناقض الأساسي في المجتمع الناشئ عن تركز الملكية والإنتاج من ناحية واستمرار فكرة الملكية الخاصة من ناحية أخرى، ولهذا فإن الثورة الاشتراكية ضرورة علمية لتطور النظام الرأسمالي نحو الاشتراكية.
وبعد فشل التجربة الاشتراكية السوفيتية، وتراجع الحركات الاشتراكية والعمالية، اندفعت الأفكار الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وانحسرت الدعوة إلى الاشتراكية، ووقع الاشتراكيون في مأزق نظري وعملي شديدين، فمنهم من تراجع إيمانه بحتمية الحل الاشتراكي، ومنهم من أُحبط وانكفأ، ومنهم من انخرط في التيار الليبرالي، ولكن بقي من هو متمسكاً بفكرة الاشتراكي انطلاقاً من أن([20]): «المرحلة الانتقالية الطويلة من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ممكنة بالفعل، والخطوات التي تدفع بهذا الاتجاه ستكون بالتأكيد ودائماً غير متساوية بين بلد وآخر، وبين حقيقة انتشارها وأخرى». وقد عبر عن ذلك د. سمير أمين عندما طرح على نفسه سؤالاً جوهرياً حول فيما إذا كانت هذه الأزمة (نهاية الرأسمالية) وفي مقابل عدم اعتقاده بأن الأزمة هي نهاية الرأسمالية، فإنه يطرح المرحلة الانتقالية الطويلة وهو يراها ممكنة.
لقد تميزت الرأسمالية المعاصر بقدرتها على التكيف والتجديد، وذلك من حيث([21]): «إدراكها لموضوعية القوانين الاقتصادية للرأسمالية، وأخذ فعلها في الحسبان، ومن ثم اكتسبت هذه الرأسمالية قدرة على البقاء»، ومن هنا يمكن أن نفهم كيف صاغ (كينز) نظريته العامة مستنداً إلى هذه الحقيقة، فأعطى بذلك النظام الرأسمالي دفعاً جديداً، سمح ببناء نظام رأسمالي متطور تراعى فيه مقتضيات المصالحة التاريخية بين رأس المال والعمل، فتحقق بذلك الازدهار والنمو لأوربا (والولايات المتحدة) في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث امتدت هذه المرحلة حتى بداية السبعينات من القرن الماضي، أي حتى ظهور ازمة (الركود التضخمي) التي تعرض لها النظام الرأسمالي العالمي، وبرز النقاش حول الحلول الممكنة لهذه الأزمة التي عجزت الكينيزية عن مواجهتها، فاندفعت الليبرالية الاقتصادية الجديدة إلى تقديم الحلول بعد أن اتهمت (تدخل الدولة) بأنه سبب الأزمة، ومع تتابع الأزمات المالية في الاقتصاد الرأسمالي في الثمانينات وما بعدها حصل تطورين هامين أثرّا على النظام الرأسمالي هما:
1 – التطور التكنولوجي الهام: وخاصة في نظام الاتصالات والمعلوماتية والانتقال إلى «الرأسمالية المعلوماتية».
2 – تنامي دور الشركات: بعد الاتجاه الذي حكم تطورها على طريقة العملقة وتخطي الحدود السياسية وتعزيز مرحلة الرأسمالية الاحتكارية.
وطرح هذا التطور مع تزايد حدة الأزمات مسألة النظام الرأسمالي ومستقبله.
وإذا كان المنظرون الماركسيون قد حسموا أمرهم، وقالوا بانهيار النظام الرأسمالي وحلول الاشتراكية ثم الشيوعية مكانه، فإن غلاة الليبراليين الاقتصاديين الجدد ودعاة العولمة حسموا أمرهم أيضاً، عندما قالوا بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ.
ولكن بين هؤلاء وأولئك، من يعتقد أنه بالإمكان تطوير النظام الرأسمالي وتطويعه انطلاقاً من قدرته الفائقة على التكيف ومرونته في التحول والتأقلم، وبالتالي إنقاذ الأسس التي يقوم عليها هذا النظام، بما يضمن استمراره.
ومع ذلك لا يخلو الأمر من بعض من يُطلق عليهم (المتشائمين) والذين لا يتوقعون استمرار النظام الرأسمالي، فها هو الاقتصادي الأميركي المعروف (جوزيف شومبيتر) يتساءل في كتابه (الرأسمالية – الاشتراكية والديمقراطية) الذي أصدره عام 1942، عما إذا كان بإمكان الرأسمالية البقاء؟ فيجيب على ذلك، على نحو قاطع، (لا، لا أعتقد أنه يمكنها ذلك) بيد أن السبب الذي يذكره شومبيتر، ليس اقتصادياً، إنما سوسيولوجياً فهو يتصور ثقافة الرأسمالية باعتبارها عامل هدم للقيم.
وقد كان (كينز) الذي يُعتبر (سيناريست) الانهيار الرأسمالي، متشائماً فيما يتعلق بمستقبل الرأسمالية، ويأتي هذا التشاؤم من خلال فهمه لآليات السوق التي تلعب فيها التوقعات دوراً أساسياً.
وإذا كان (كينز) قد نظر إلى الاشتراكية نظرة شك في إمكانياتها، فقد وجد في (تشريك) الاستثمار وتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، الوسيلة الوحيدة لضمان ما يقرب من العمالة الكاملة، لقد أراد الحل للأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد العالمي (1929) انطلاقاً من الولايات المتحدة، وهو في قيام الدولة بالإنفاق، وإحكام سيطرتها على القرار الاقتصادي، وفي ذلك إنقاذاً للنظام الرأسمالي، وليس انقلاباً عليه.
ويستعرض (هيلبرونر) ([22]) السيناريوهات المحتملة لتوقع مستقبل الرأسمالية، من آدم سميث إلى ماركس إلى شومبيتر، تلك التوقعات المتشائمة والمتفائلة، ليخلص إلى أن مشكلة الرأسمالية تنبع من آليات النظام، وبالتحديد (الاندفاع نحو رؤوس الأموال وخصائص آليات السوق) ويرى أن معالجة ذلك هو تأكيد الإرادة السياسية، وبالتالي احتواء الديناميات غير المرغوبة للمجال الاقتصادي أو علاجها أو إعادة توجيهها طريق القوة الوحيدة القادرة على إثبات وجود قوة مضادة لقوة المجال الاقتصادي ألا وهي الحكومة. كما يرى (هيلبرونر) أن المشكلات التي تهدد الرأسمالية، تنبع من القطاع الخاص وليس من القطاع العام، كما يشكك باقتصاد (اشتراكية السوق) إذ لا يمكن دخول السوق بدون البنية الأساسية للرأسمالية، مشيراً إلى مأزق السويد.
والبديل الذي يراه هيلبرونر هو([23]) (مجتمع لا يكون أسلوب التعاون فيه قائماً على التراث والعوائد، ولا على إصدار الأوامر المركزية، ولا مذعناً لضغوط السوق وحوافزها) ويدعو إلى مشاركة جميع المواطنين من خلال الحوار والاقتراع فيما دعاه (مجتمع المشاركة) لكنه يعترف بصعوبة الانتقال إلى هذا المجتمع، بسبب المعارضة الضارية التي سيتعرض لها هذا البديل الذي يراه([24]): (مبتكراً حقاً، وصالح للعمل من الناحية التقنية، وملزم من الناحية الأخلاقية كما أنه لا يستبعد نوعاً من (الاشتراكية العسكرية) و(التخطيط المركزي).
ويتساءل (ليستر ثورو Lister Thoro) ([25]) في كتابه «مستقبل الرأسمالية»: «ما الذي تحتاجه الرأسمالية كي تحافظ على زخمها، وتظل هي القوة الحاسمة القادرة على التجدد والاستمرار في أواخر القرن العشرين، ومطلع القرن الحادي والعشرين؟».
يجيب على ذلك (ثورو) بأن ما سيجعل الرأسمالية قابلة للحياة في القرن الحادي والعشرين هو (طاقة الذكاء الصناعي، وتخيل واختراع وتنظيم تكنولوجيات جديدة، هي المكونات الإستراتيجية الرئيسية) وإذ يعترف (ثورو) بأن الرأسمال المادي لا يزال ضرورياً، إلا أنه يرى أن رأس المال أصبح بضاعة (يمكن استدانتها من الأسواق المالية العالمية كنيويورك ولندن وطوكيو). إذ لم يخطر ببال (ثورو) كما يبدو ما قد تتعرض له هذه الأسواق من أزمات، كالأزمة الراهنة، التي جعلتها ترتعد من مصير مجهول، وتتطلع إلى إجراءات حكومية إسعافية عاجلة.
ولكن (ثورو) يسير إلى أحد أهم نقائض الرأسمالية إذ يقول: «لا يوجد في الرأسمالية (وجوب اجتماعي) والقرارات الفردية، حسب النظام الرأسمالي والسوق الحرة، تزيد الرفاه الكلي حتى ولو أدت إلى ركود المجتمع إذ يختفي في الرأسمالية تماماً المحتوى الاجتماعي لتكوين الأفضلية الفردية».
ويقول (ثورو) أنه: «إذا ما أُريد للرأسمالية أن تعمل على المدى البعيد، ينبغي لها أن توظف استثمارات لا تصب في أي مصلحة شخصية لفرد معين، وإنما في مصلحة الجماعة البشرية على المدى البعيد»، كما يرى أن «الرأسمالية مطالبة بفعل شيء لم تفعله إلا في الحدود القليلة: الاستثمار للمستقبل، وإدخال تعديلات مقصودة في بنيتها المؤسساتية لتشجيع الأفراد والشركات والحكومات على اتخاذ القرارات بعيدة المدى».
ويرى (ثورو) أن الحل لمشكلات الرأسمالية، هو في قيام توازنات مختلفة جداً، بين العام والخاص، وبين الاستهلاك والاستثمار، ويرى أن جميع الموديلات العامة، موديل الشيوعية، والموديل الخاص، والإقطاعية، وموديل الرأسمالية المطلقة، جميع هذه الموديلات (النماذج) لا تفلح، لذا فإنه يتعين على الرأسمالية «أن توجد قيماً جديدة ومؤسسات تسمح بتوازن استراتيجي جديد في هذه الميادين جميعاً».
ويتساءل (برنار ليفاسير) ([26]) فيما إذا كانت الرأسمالية قابلة للإصلاح؟ بعد أن يبين رأيه حول فشل «الاشتراكية الحقيقة»، وحول الاعتراضات العديدة للمقولات الليبرالية، يدعو إلى المراجعة الكاملة للأفكار الموروثة، «ففي عصر العولمة حيث تتفاقم مشكلات البيئة، ويهدد تزايد السكان العديد من مناطق العالم، لم يعد النموذج الاقتصادي المنتصر حالياً مقبولاً، لقد وجهتنا اليد الخفية لآليات السوق نحو نوع من التطور لا يتماشى مع ما يرجوه الجميع أو يتظاهرون بأنهم يسعون إليه، ألا وهو أن يمتد مستوى المعيشة الذي ينعم به أصحاب أكبر قدر من الثراء ليشمل سكان العالم أجمعين».
وليؤكد ذلك يأتي بما أورده تقرير لإحدى وكالات الأمم المتحدة وهو أن كل فرد في البلدان المتقدمة يستهلك قدراً من الموارد يعادل ما يتراوح بين 20 و30 مثل ما يستهلكه الفرد في البلدان النامية.
وبعد أن يستعرض سلبيات سوق (اليد الخفية) يطالب بإعادة نظر في علاقات الاقتصاد بالسياسة.
ويقول (ليفاسير) «نحن بحاجة إلى شكل جديد من التدخل ينجح في التأثير بعمق في ظروف الإنتاج والتبادل، ويترك في الوقت نفسه للمنافسة بين المنتجين وللاختبارات الحرة للمستهلكين مهمة القيام بدورها».
ويستنتج أن المواجهة الأيديولوجية بين الليبرالية والاشتراكية «حرفت أنظار المنظرين عن ذلك التعامل العملي مع الحقائق وأعاقت بناء عقيدة حقيقية متماسكة للتدخل في اقتصاد السوق».
ولا يقدم (ليفاسير) وصفة جاهزة لما يراه، إنما يترك ذلك لمزيد من النقاش والحوار، ولكي تتم المعالجات والإجابات في ضوء الظروف الموضوعية لكل مجتمع، وكل ما يريده هو أن يثبت خطأ الاعتماد على آليات السوق، ويدعو لتدخل يتفاوت مداه حسبما تقتضيه ظروف كل بلد.
الطريق الثالث([27]): في عام 1998، بعد أن هزت الأزمة المالية في دول ما كان يدعى النمور الآسيوية، الاقتصاد العالمي، عُقدت ندوة على جانب من الأهمية في كلية الحقوق بجامعة نيويورك، وكان موضوعها (الطريق الثالث)، وترجع أهمية هذه الندوة، إضافة لأهمية موضوعاتها، من أهمية الأشخاص الذين حضروها، وكان من بينهم الرئيس الأميركي الديمقراطي (كلينتون) ورئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) ورئيس الوزراء الإيطالي (روماني برودي) ورئيس الوزراء الهولندي (ديم كوك) ولم يستطيع رئيس الوزراء الفرنسي (جوسبان) الحضور، إلى جانب عدد من المستشارين الاقتصاديين.
وكان الغرض من هذه الندوة: «تبادل الأفكار وطرحها دعماً للجهود الرامية إلى إيجاد حل للمشكلات العالمية المعاصرة» وتتلخص الأطروحة الرئيسية «في وجود طريق ثالث بين الاشتراكية التي (أدانها التاريخ) حسبما يعتبر البعض، والرأسمالية التي اهتزت بعنف من جراء الأزمات الراهنة (1997) في آسيا وروسيا وأمريكا الجنوبية، وترتكز الفكرة كما هو واضح على تطوير حركة جديدة تحل محل (الاشتراكية الدولية) وتفرز أحزاباً جديدة، مثل الحزب الديمقراطي الأمريكي الجديد، وسائر أحزاب يسار الوسط في كندا، وأمريكا الجنوبية وأوربا».
ويعتبر (انطوني جيرنز) ([28]) أبرز من كتب في موضوع «الطريق الثالث» وهو يعتبر بمثابة المرشد الروحي لتوني بلير، وقد أصدر كتابه عام 1998 حول الموضوع، وبعد أن يعلن جيدنز (موت الاشتراكية) في الفصل الأول من كتابه يستعرض (الليبرالية الجديدة) ونظرتها إلى الدولة وقوى السوق، ويقارن بين الأيديولوجيات مسلطاً الضوء على الديمقراطية الاجتماعية وسماتها العامة بين اليسار القديم واليمين الجديد (التاتشرية) وما طرأ عليها من تغيرات. ثم ينتقل إلى المناقشات حول مستقبل الديمقراطية الاجتماعية التي يراها تمر بمآزق خمسة هي:
1 – العولمة.
2 – الفردية.
3 – اليسار واليمين.
4 – الهيمنة السياسية.
5 – القضايا البيئية.
ويرى (جيدنز) أنه ينبغي أن يتبنى الطريق الثالث اتجاهاً إيجابياً تجاه العولمة، وأن يحتفظ باهتمام مركزي بالعدالة الاجتماعية ويركز على المشاركة في الجماعة الاجتماعية الأوسع، كما يرى تبني شعار (لا حقوق دون مسؤوليات) و(لا سلطة دون ديمقراطية)، كما يعتبر أن قضية التحديث تعتبر جوهرية بالنسبة للسياسات الجديدة.
وإذ يدعو إلى توسيع وتعميق الديمقراطية فإنه يرى أيضاً الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني، أما الأساس الاقتصادي لهذه الشراكة فهو الاقتصاد المختلط الجديد. وذلك بتوسيع دور القطاع العام وتعظيم الانفتاح والشفافية وتقديم صمامات الأمان ضد الفساد ورفع الكفاءة الإدارية وإعادة بناء الاتصال المباشر مع المواطنين.
ويركز (جيدنز) على قضية المجتمع المدني، وضرورة تعزيزه كعنصر من العناصر الأساسية للطريق الثالث.
أما (طوني بلير) وهو أحد المعبرين عن الطريق الثالث، فيراه يعني (السعي لتبني بعض قيم يسار الوسط، أي قيم التضامن والعدل والمسؤولية الاجتماعية للدولة، بعيداً عن أفكار اليسار التقليدي الذي يرى تحقيق سيطرة الدولة على الاقتصاد والمجتمع وكذلك متجاوزاً أفكار اليمين القديمة التي تعارض مبدأ تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية).
إن «الطريق الثالث» ما هو إلا محاولة لإنقاذ (رأسمالية الأنكلوسكسونية) من الغرق في نار «الليبرالية الاقتصادية الجديدة» وسياساتها الاقتصادية والمالية التي تبنتها بريطانية برئاسة تاتشر والولايات المتحدة برئاسة ريغان، والتي قادت إلى الأزمة الراهنة، بجميع مظاهرها المالية والاقتصادية، ونجد من خلال التطورات الاقتصادية في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي في أوربا، أنها لم تنجرف كلياً في تطبيقاتها العملية وراء السياسات (التاتشرية الريغانية) ولعل هذا ما جعل (جون كراي) يقول([29]): «ستظل الرأسمالية الأوربية مختلفة اختلافاً عميقاً عن الأسواق الحرة الأميركية، وليس هناك بلد أوربي (حتى ولا المملكة المتحدة) على استعداد لتحمل مستويات التسيب الاجتماعي الذي تفرزه السوق الحرة في الولايات المتحدة».
لقد حافظت (الرأسماليات الأوروبية) بدرجات مختلفة على دور الدولة الاقتصادي، وعلى دورها الاجتماعي، في الوقت الذي كانت تدعو فيه الدول النامية إلى الالتحاق بالاقتصاد الرأسمالي العالمين وتبشر (بخيرات) العولمة الاقتصادية، وكانت في ذلك تستهدف:
1 – المحافظة على تماسك مجتمعاتها بالحفاظ على مكتسبات الفئات المتوسطة والفقيرة، بدرجات متفاوتة بين بلد وآخر، من جهة.
2 – جر البلدان النامية إلى دائرة نفوذها في إطار التبعية الاقتصادية والتكنولوجية ومنع هذه البلدان من تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تجعلها قادرة على تحقيق فك (ارتباطها) بالاقتصاد الرأسمالي العالمي من جهة ثانية.
ومن هنا، يمكن أن نفهم إصرار الاتحاد الأوروبي سواء في إطار الشراكة الأوروبية، أو في إطار (الاتحاد من أجل المتوسط) على اندماج بلدان جنوب شرق المتوسط بالاقتصاد العالمي والتحول نحو اقتصاد السوق عن طريق التكتل القائم بالفعل أي الاتحاد الأوروبي.
في ضوء العرض السابق، وما وصلت إليه حال الاقتصاد الأميركي الذي يتربع على عرش الرأسمالية الاحتكارية العالمية، كيف ستتمكن الولايات المتحدة من الخروج من الأزمة تحت عنوان مستقبل النظام الرأسمالي؟.
توصلنا سابقاً إلى نتيجة هامة مفادها، أن النظام الرأسمالي يتعرض لأزمة مالية – اقتصادية بنيوية حادة، وهي أخطر من أزمة (الكساد العظيم) في ثلاثينات القرن الماضي، وقد جاءت الإدارة الأميركية الجديدة مع تفاقم الأزمة، وإن بدت أنها في بدايتها ورفع الرئيس الأميركي الجديد (أوباما) شعار التغيير في مواجهة ممارسات وسياسات إدارة بوش التي قادت إلى الأزمة الراهنة والتي تُعبر عن فشل النموذج الأميركي من جهة، وسقوط مصداقية الولايات المتحدة في العالم من جهة ثانية.
وقد أجرت مجلة (نيوزويك) الأميركية استطلاعاً هاماً([30]) تبين من خلاله أن:
1 – 71% من الشعب الأميركي يرغب بتغيير الوضع الاقتصادي.
2 – 76% من الشعب الأميركي يؤيد الزيادة في الإنفاق لجعل الرعاية الصحية في متناول عدد أكبر من الناس وبكلفة أقل، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة عجز الموازنة الفيدرالية.
3 – 75% من الشعب الأميركي يؤيد زيادة الإنفاق لبناء الطرقات والجسور والبنى التحتية وترميمها، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة بعجز الموازنة الفيدرالية.
4 – 66% من الأميركيين متفائلون بأن الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة (أوباما) سوف تجعل الأمور أفضل.
وأعتقد أن نتائج هذا الاستقصاء تلتقي مع توجهات الإدارة الأميركية الجديدة ومع خطة أوباما لتحفيز الاقتصاد.
فكيف يرى، أكاديمي ليبرالي مثل (فرانسيس فوكاياما) ([31]) استعادة الولايات المتحدة لعافيتها؟.
يقول (فوكاياما): «إن ذلك يتوقف على قدرتنا على القيام بتغييرات أساسية:
أولاً: علينا أن نتخلى عن مبادئ عهد ريغان المتعلقة بالضرائب والقوانين التنظيمية، التخفيضات الضريبية، تشعرنا بالسرور لكنها لا تحفز النمو بالضرورة، أو تسدد كلفتها بنفسها نظراً إلى وضعنا الحالي الطويل الأمد.
ثانياً: القطاع الأميركي بكامله الذي لا يحظى بتمويل كاف، ويفتقر إلى الخبرات المهنية والمحبط، بحاجة إلى أن تتم إعادة بنائه، وإعادة تعزيز كبريائه، هناك مهام معينة لا يمكن إتمامها إلا من قبل الحكومة.
ثالثاً: المؤسسات المالية بحاجة إلى رقابة صارمة.
رابعاً: علينا تقديم معونة أفضل للعمال، بدلاً من أن ندافع عن وظائفهم الحالية.
خامساً: إذا لم تكن التخفيضات الضريبية سبيلاً للازدهار المؤكد، فالإنفاق الاجتماعي (المفرط) ليس السبيل إلى ذلك أيضاً.
على صعيد الإجراءات الحكومية، بدأ الرئيس الأمريكي السابق (بوش الابن) باتخاذ مجموعة إجراءات، كان من بينها (الاستحواذ) أو (شراء أسهم) كبريات المؤسسات المالية والمصارف التي أصابها دمار الأزمة في محاولة لإنقاذ المؤسسات، وبذات الوقت حض بلدان الاقتصادات الناشطة والبلدان النفطية على المساعدة في تدارك الأزمة، ولكن مع التأكيد على المحافظة على أسس النظام الرأسمالي.
وفي هذا قالت وزيرة خارجيته (رايس) «إن صورة الرأسمالية والنظام الرأسمالي في العالم لا تزال جيدة.. حتى بعد الأزمة الراهنة، لا يوجد بديل عن الرأسمالية».
وهذا ما عملت خطة الإنقاذ المالي التي اعتمدها مجلس الشيوخ الأميركي في شهر تشرين الثاني 2008، على التمسك به عن طريق حماية الملكية، وتشجيع النمو الاقتصادي، وزيادة عائدات الاستثمار إلى أقصى حد ممكن.
لكن الرئيس الأميركي الجديد (أوباما) أعد مع فريقه الاقتصادي خطة لإنعاش الاقتصاد الأميركي، وقد أشارت الخبيرة الاقتصادية في (معهد بروكينغز) (أليس ريفلين): «إننا في حاجة إلى نقطة إنعاش للنهوض بالاقتصاد، أو على الأقل إلى الحد من الأضرار»، وأضافت: «سيكون الانكماش شديداً جداً، وأعتقد أن أفضل ما يمكن أن نأمل به على المدى القريب، هو ألا يتفاقم الوضع، ولن تتحسن الأمور سريعاً حتى باعتماد خطة إنعاش واسعة النطاق».
وبعد أن تعير إقرار خطة (أوباما) في مجلس الشيوخ، كتب رئيس الولايات المتحدة الجديد في صحيفة (واشنطن بوست) في 5/2/2009 مقالاً يشرح فيه رؤيته للتغيير الاقتصادي ويكشف فيه عبثية العرقلة التي يفرضها معارضو خطته الإنقاذية، ويقول بهذا الصدد([32]):
«هذه الخطة هي أكثر من وصفة للإنفاق القصير المدى، إنها إستراتيجية لنمو الولايات المتحدة على المدى الطويل، وتوفر فرصة للاستثمار في قطاعات مثل الطاقة المتجددة والصحة والتعليم وهي إستراتيجية ستطبق بمعايير شفافة ومحاسبية لم تشهد من قبل».
ويقول: «…. أشعر بمدى أهمية إقرار خطة الإنقاذ الاقتصاد في الكونغرس، بفضلها سنستطيع إنقاذ أو خلق 3 ملايين وظيفة جديدة خلال العامين المقبلين، وتأمين خفوضات ضريبية لـ 95% من العمال الأميركيين، وإطلاق شرارة الإنفاق الرأسمالي والاستهلاكي، واتخاذ خطوات بهدف تقوية بلدنا سنوات مقبلة».
ويقول: «… الآن هو الوقت المناسب لخلق الوظائف التي تعيد بناء أميركا للقرن 21 من خلال إعادة بناء الطرقات المترهلة والجسور والعبارات، وتصميم شبكة كهربائية ذكية، ووصل كل زاوية من البلاد بمركز المعلومات».
وقد أقرت الخطة بعد ذلك، حيث وصلت كلفتها إلى حوالي 850 مليار دولار، فيما تغرق الولايات المتحدة في الركود على نحو أعمق، حيث وصلت البطالة إلى حوالي 8.1% ويتوقع أن يتقلص الاقتصاد بنسبة حوالي 2% خلال هذا العام.
لكن نتائج هذه الخطة لا يمكن التكهن بها منذ الآن، فما يزال الوقت مبكراً لتقديم تكهنات قريبة من الواقع، ذلك أن نجاح الخطة مرهون بمجموعة عوامل داخل الاقتصاد الأميركي، وفي علاقاته مع الاقتصادات الأخرى، فضلاً عن التطورات الإستراتيجية التي يمكن أن يشهدها النظام العالمي.
في الجانب الآخر من الأطلسي، بدأت الشكوك مبكرة حول إمكانية تجاوز الأزمة في الاتحاد الأوروبي، حيث عبر عن ذلك (ساركوزي) الرئيس الفرنسي والرئيس الدوري للاتحاد، فقد سبق أن قال في بداية ظهور الأزمة على السطح([33]): «إن حال الاضطراب الاقتصادي التي أثارتها أزمة أسواق المال الأميركية وضعت نهاية لاقتصاد السوق الحرة». ومضى قائلاً أن: «نظام العولمة يقترب من نهايته مع أفول رأسمالية فرضت منطقها على الاقتصاد بأسره، وساهمت في انحراف مساره، إن فكرة القوة المطلقة للأسواق، ومنع تقييدها بأي قواعد أو بأي تدخل سياسي كانت فكرة مجنونة وفكرة أن السوق دائماً على حق كانت أيضاً فكرة مجنونة».
لكن إلى أين سيؤدي هذا الجنون؟.
من المؤكد أن النظام الرأسمالي قد تعرض لأزمة بنيوية حادة وفي العمق، وستكون هذه الأزمة خطيرة النتائج، ليس لأسباب اقتصادية بحتة، وإنما أيضاً لآثارها السياسية، والاجتماعية، ذلك أن الأزمة الراهنة التي أوصلت عدد العاطلين عن العمل إلى نحو 3.6 مليون، لا تزال في بدايتها، وإذا كان الرئيس الأميركي روزفلت قد استطاع ببرنامجه (New deal) ووفقاً للنظرية الكينزية أن ينقذ الاقتصاد الأميركي، فإن الشكوك تتعاظم حول قدرة برنامج (أوباما) على تجنيب الاقتصاد الأميركي النتائج الكارثية لهذه الأزمة. خاصة وأن معارضي هذا البرنامج ينشطون ضد ما دعوه بـ (الإجراءات الاشتراكية) التي وصفوا بها خطة الإنقاذ التي تبناها (أوباما).
ومن الاحتمالات المطروحة جدياً في المجتمع الأميركي، أن تؤدي الأزمة إلى ظهور حالات من (التطرف العنيف) الذي شهدته الولايات المتحدة خلال أزمة الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي، وهذا ما حذر منه تقرير لمدير المخابرات القومية الأميركية (دينس بلير) الذي يشرف على 17 جهازاً للمخابرات، حيث قال منذ أسبوعين([34]): «إن القلق الأولي في الأجل القريب في الولايات المتحدة هو الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها الجيوبولتيكية، إن الأزمة مستمرة منذ أكثر من عام، والاقتصاديون ينقسمون حول ما إذا كان يمكن أن تبلغ ذروتها ومتى تبلغها، وبطبيعة الحال أن يزداد الانكماش عمقاً، وأن يصل مستوى الكساد الكبير، وبطبيعة الحال فإننا جميعاً نتذكر العواقب السياسية المأساوية التي جلبتها الاضطرابات الاقتصادية في عشرينات القرن الماضي في أوروبا، وعدم الاستقرار والمستوى المرتفع من التطرف العنيف»، ويمضي التقرير قائلاً: «لعل الوقت هو التهديد الأكبر، فكلما طال الأجل قبل أن يبدأ الشفاء كان الاحتمال أكبر لدمار خطير للمصالح الإستراتيجية الأميركية.. إن خطر أن تنتج هذه الأزمة انتفاضات ثورية هو خطر عالمي.. والمرجح أن ينتج الانهيار المالي موجة من الأزمات الاقتصادية في بلدان الأسواق الصاعدة خلال العام القادم..».
كذلك توقع (دينيس بلير) أن تلجأ بلدان كثيرة إلى «إطلاق موجات مدمرة من الإجراءات التي ترمي إلى حماية نفسها.. على نحو سبق أن أدى إلى تهيئة المناخ في ثلاثيان القرن العشرين إلى انفجار الحرب العالمية الثانية».
وقال: «إن آثار الأزمة الحالية حتى الآن قد ألحقت أضراراً مدمرة بالثقة العالمية بالرأسمالية الأميركية».
كما ذهب مدير المخابرات الأميركية إلى حد اعتبار أن التهديد الذي تشكله الأزمة الراهنة يرفع من تقدير «الأخطار الإرهابية المحتملة» فإن «قوس الاضطرابات الممتد من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا والظروف السائدة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا والتحديات الإستراتيجية من الصين وروسيا على السواء تتركز في أوراسيا».
هكذا نجد أن ما يشغل المخابرات الأميركية، هو الآثار والنتائج المدمرة للأزمة الراهنة التي ستولد «التطرف العنيف» تارة، و«خطر الثورة الاجتماعية» تارة أخرى، ولعل هذا ما دفع الرئيس الأمريكي الجديد إلى تعيين ثلاثة جنرالات سابقين في أهم المناصب الأمنية وهم:
– دينيس بلير لإدارة المخابرات.
– وجيمس جونز لمنصب مستشار الأمن القومي (وهو جنرال مارينز).
– وإيريك سينسيكي وزيراً لشؤون المحاربين القدماء.
مما يعكس حرص (أوباما) على مواجهة مرحلة الاضطرابات المتوقعة خاصة وأن البنتاغون أيضاً يستعد لما يسميه (صدمات إستراتيجية) يعرفها بأنه: «استعداد ضروري لتفكك إستراتيجي عنيف داخل الولايات المتحدة يمكن أن ينشأ عن (انهيار اقتصادي لا يمكن التنبؤ به)، أو عن فقدان النظام السياسي والقانوني القدرة على أداء وظائفه».
ولهذا فإن وثيقة بحثية لمعهد الدراسات الإستراتيجية التابع للجيش الأميركي تقول أنه: «تحت ظروف من التطرف الأقصى يمكن أن تتضمن (الاستعدادات) استخدام القوة العسكرية ضد جماعات معادية داخل الولايات المتحدة.. حيث يكون البنتاغون بالضرورة قوة للتمكين من استمرار السلطة السياسية في صراع مدني أو اضطرابات مدنية في عدد من الولايات أو على اتساع البلد بأسره».
وبالطبع فإن مثل هذه التقارير والدراسات تأتي في إطار البحث والدراسة ووضع السيناريوهات لمختلف الاحتمالات، وقد يؤدي برنامج (أوباما) إلى الحيلولة دون تفاقم الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ويحل بعض جوانب المشكلات الاقتصادية، ولكن ذلك يتوقف على سرعة التنفيذ والسعي إلى كسب الرأي العام الأميركي واستعادة ثقة المجتمع الدولي.
وعلى أي حال فإن انهياراً سريعاً للنظام الرأسمالي، لن يتحقق خاصة مع عدم اكتمال الصيغة البديلة، إلا أن النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة وأوربا ودول العالم كافة بعد الأزمة سيكون بالتأكيد هو غيره ما قبل الأزمة.
ب – مستقبل النظام الاقتصادي العالمي:
تولدت عن الحرب العالمية الثانية (حالة) عالمية جديدة، تميزت بسيادة نظام القطبية الثنائية، الذي صُبغ باللون الرمادي للحرب الباردة، لكن سباق التسلح والصراع الصامت بين القطبين الأعظمين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) وأوضاع الاتحاد السوفيتي الداخلية (البيروقراطية والجمود الفكري والفساد..) والتطورات العالمية الأخرى، أنهت الحرب الباردة، بانهيار الاتحاد السوفيتي وتراجع الدور الروسي، وصعود الولايات المتحدة وسيادة نظام القطبية الأحادية، وتصوير ذلك كله على أنه انتصار لليبرالية الاقتصادية الجديدة، وتتويجاً للرأسمالية العالمية، وللقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان على الصعيد العالمي، حيث اتخذ ذلك ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة.
وقد رافق ذلك، تحولات هامة على الصعيد الاقتصادي والسياسي، فقد تأسست آليات اقتصادية جديدة، أهم ملامحها بروز الشركات العملاقة متعدية الجنسية وتسارع اندماج هذه الشركات، وقيام التكتلات التجارية والاقتصادية (أبرزها الوحدة الاقتصادية الأوروبية) واتساع سيطرة المؤسسات الدولية(صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) على حركة التجارة العالمية وعلى حركة رأس المال والأعمال على الساحة الدولية، عبر تأكيد مقولات الليبرالية الاقتصادية الجديدة (حرية التجارة، الاقتصاد الحر، الخصخصة، تشجيع حركة رأس المال والاستثمار، الأسواق المالية، التجارة الإلكترونية).
وعلى التوازي كانت هناك ثورة علمية تكنولوجية هائلة، خاصة في مجال المعلوماتية والهندسة الوراثية، مما فتح آفاق تطورات علمية لا نهاية لها على صعيد الثقافية والمعرفة.
وبامتلاك الولايات المتحدة ناصية التكنولوجيا العالية واحتكارها، وبفضل قوتها الاقتصادية والعسكرية، تمكنت من احتكار القرار العالمي، والسيطرة في المحافل الدولية (خاصة مجلس الأمن) واستخدام المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) لفرض جدول أعمال اقتصادي جوهره الليبرالية الاقتصادية الجديدة من خلال نظام عالمي أهم ملامحه العولمة الاقتصادية والمالية.
وكما أظهرت الأزمة الراهنة ضرورة وأهمية إعادة النظر بالنظام الرأسمالي الاحتكاري، وسياساته الاقتصادية والمالية التي قادت إلى الأزمة، فإن الضرورة والأهمية تبدو ملحة لإعادة النظر في النظام المالي والاقتصادي العالمي، الذي انفردت الولايات المتحدة في قيادته، وقاد إلى الاضطراب وعدم الاستقرار في أنحاء العالم.
وإذ تتصاعد الدعوات من مختلف الأطراف إلى إحداث تغيير في أسس هذا النظام، انطلاقاً من إلغاء الهيمنة الأميركية، فإن بعض مراكز الدراسات في الولايات المتحدة، لا يزال من خلال بعض الدارسين والمفكرين، يرى بأن الولايات المتحدة تستطيع الاستمرار في قيادة النظام العالمي، ويعبر هذا الرأي عن إصرار قوى الرأسمالية الاحتكارية العالمية على الاستمرار في نهجها الذي قاد العالم على الكارثة الراهنة.
والحديث عن مصير الإمبراطورية الأميركية ليس جديداً أي أنه لم ينشأ بسبب الأزمة الراهنة، وإنما احتدم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالقرار العالمي.
ويرى منظرو الرأسمالية الاحتكارية العالمية، وعلى رأسهم المحافظون الجدد، ومراكز دراساتهم أن (ما نعيشه الآن ليس إلا فجر العصر الأميركي، وأن الولايات المتحدة ستسيطر على العالم أقله مئة سنة مقبلة).
ففي مقابل الرأي القائل بصعود الصين كقوة عظمى واستعادة روسيا ما يكفي من النفوذ، جاء من يقول: «أنتم مخطئون، الصين ليست إلا نمراً من ورق، وروسيا لن تصمد، وفي العشرينات من هذا القرن ستكون الصين تشرذمت وروسيا تفككت».
من أصحاب هذا الرأي الخبير الإستراتيجي الأميركي (جورج فريدمان) الذي أصدر كتاباً جديداً بعنوان: (السنوات المئة المقبلة) ([35]) في الشهر الأول من هذا العام، وفيه يناقض جميع التوقعات المتداولة منذ سنوات، حول نهاية نظام القطبية الأحادية، منطلقاً من المعطيات الرقمية حول الاقتصاد الأميركي، إذ يقول:
1 – تشكل أميركا 4% من سكان العالم، فيما 26% من النشاط الاقتصادي العالمي يحصل فيها، ففي عام 2007، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الأميركي 14 تريليون دولار من أصل 54 تريليوناً كان الناتج المماثل للعالم، واقتصادها ضخم إلى درجة أنه أكبر من اقتصادات الدول الأربع التي تليه مجتمعة وهي اليابان وألمانيا والصين وبريطانيا، علماً أن الناتج المحلي الإجمالي لليابان، وهي الاقتصاد الأكبر الثاني، يبلغ 4.4 تريليونات دولار، أي قرابة ثلث الاقتصاد الأميركي.
2 – يشار، باستمرار، إلى التراجع في صناعات الصلب والسيارات التي كانت قبل جيل واحد عماد الاقتصاد الأميركي، على أنه دليل على تراجع أميركا كدولة صناعية، ولكن على رغم هذا التراجع، بلغ إنتاجها الصناعي 2.8 تريليون دولار عام2006، وهذا هو الأكبر في العالم، وأكبر من ضعفي القدرة الصناعية الثانية، أي اليابان، وأكبر من صناعات اليابان والصين معاً.
3 – هناك حديث عن نقص النفط، والنقص موجود وسيزداد، ولكن ينبغي التذكير بأن أميركا أنتجت 8.3 مليون برميل يومياً (2006) في مقابل 9.7 مليون برميل/يوم أنتجتها روسيا و10.7 مليون برميل/يوم أنتجتها السعودية، ويتبين أن أميركا تنتج 58% من إنتاج السعودية، وعملياً تنتج أكثر من إيران والكويت والإمارات العربية، وإنتاجها من الغاز لا يختلف ففي عام 2006 كانت روسيا الأولى مع إنتاج 22.4 تريليون قدم مكعب وأميركا الثانية مع 18.7 تريليون متر مكعب، أي أكثر من إنتاج الدول الخمس التي تليها، لكن استهلاك أميركا من النفط والغاز في كلا الحالين هائل.
4 – على رغم ضخامة اقتصادها، لا يزال عدد السكان في أميركا دون المعدل العالمي الذي يبلغ 49 شخصاً في كل كيلومتر مربع، فالمعدل في اليابان هو 338 وفي ألمانيا 230، لكنه في أميركا هو 31 فقط، يضاف إلى ذلك أن معدل ما لدى الفرد الأميركي من الأراضي الزراعية هو خمسة أضعاف ما للفرد في آسيا وضعفا ما له تقريباً في أوروبا وثلاثة أضعاف المعدل العالمي.
من هذه الأرقام يستدل جورج فريدمان، أن أميركا لا تزال تنمو ولديها القدرة على التوسع في المجالات الثلاثة المطلوبة للاقتصاد، أي الأرض واليد العاملة، ورأس المال.
أما الجواب الأبسط لشرح سبب قوة أميركا فيراه فريدمان في قوتها العسكرية، فهي تسيطر كلياً على قارة لا يمكن اختراقها بغزو أو احتلال، ويطغى على جيشها على جميع جيوش جيرانها، وتسيطر على جميع محيطات العالم، بحيث لا تستطيع أي قوة عسكرية أن تتحرك من دون علمها وتالياً تسيطر على النظام التجاري العالمي، وهذا لم يحصل في العالم من قبل.
ويرى فريدمان أن ما عزز قوة أميركا، أن الدول التي تخوض حروباً تحتاج إلى وقت لتفيق من آثارها، أما أميركا فخاضت حروباً وانتعشت بفضلها، وسيطرتها تحققت في الحربين العالميتين، ثم في انهيار الاتحاد السوفيتي وستستمر على الأقل قرناً، ستدور أحداثه حولها، سيكون (تاريخه تاريخها) ليس لأنها قوية فحسب ويقول: «بل لأن ثقافتها ستخترق العالم، وتحدده مثلما فعلت الثقافتان الفرنسية والبريطانية، خلال فترات قوتهما، الثقافة الأميركية على حداثتها وبربريتها ستحدد طريقة تفكير العالم وعيشه».
لكن وقائع سير الأزمة الراهنة، لا يتفق مع ما ذهب إليه فريدمان حيث تبقى آراءه مجرد أمينات وأوهام فريقاً من الأميركيين ودعاة الليبرالية الاقتصادية الجديدة.
لقد أُصيبت الثقافة والقيم الأميركية بنكسة حقيقية، وفقدت ثقة من كان يثق بها، حتى قبل بروز مظاهر الأزمة الحالية، ففي أصقاع العالم تعرضت الثقافة والقيم الأميركية، إلى هزة عنيفة بسبب الممارسات العنيفة والشرسة للسياسات الأميركية، ومحاولة فرضها بالقوة العسكرية على شعوب العالم، فضلاً عن انتهاكها لحقوق الإنسان وللحريات الديمقراطية التي تنادي بها، تبدى ذلك في السنوات الأخيرة واضحاً في المعتقلات السرية والمعلنة (مثل غوانتامو) وفي حربها الوحشية ضد أفغانستان، وحربها الشرسة ضد العراق واحتلاله، هذا فضلاً عن الفشل الذريع الذي تجلى بالأزمة المالية والاقتصادية من جراء هيمنة الفكر الليبرالي الاقتصادي الجديد على السياسات الاقتصادية والمالية، سواء داخل الولايات المتحدة، أو على صعيد العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية.
ففي داخل الولايات المتحدة، ثمة أمور عديدة، سوف تفرض التغيير الذي رفع شعاره الرئيس الأميركي الجديد، وتطالب دراسة حديثة قدمها (جون ميشام إيفان توماس) ([36]) بالمحاسبة عما آل إليه حال الاقتصاد الأميركي إذ تقول الدراسة بأنه آن وقت الحساب، وتقول بأن أميركا ستصبح أكثر شبهاً بالفرنسيين مع ارتفاع الإنفاق المخصص للبرامج الاجتماعية خلال العقد المقبل، ذلك أن التوجهات السياسية تغيرت، وسيكون الأميركيون منشغلين في البحث عن أفضل سبل لإدارة الاقتصاد المختلط، فقد بدأ (بوش) بوضع حد لعصر ريغان (استناداً لبرنامجه لإنقاذ الاقتصاد من الأزمة الراهنة)، ثم جاء (أوباما) ليخطو خطوة أكبر. والحل الذي يراه الكاتبان هو في التدخل الحكومي على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل فإن:
– تقدم السكان في السن.
– والاحتباس الحراري.
– وارتفاع كلفة الطاقة.
سيحتم فرض المزيد من الضرائب والمزيد من الإنفاق الحكومي.
لكن على المستوى العالمي، فإن المناداة بتغيير النظام العالمي، أصبحت عامة، فإذا كان مناهضو العولمة كانوا من السباقين في هذا الميدان، فإننا أصبحنا نسمع الأصوات عالية من جميع دول العالم بضرورة إصلاح النظام العالمي.
وقد اجتمعت دول مجموعة العشرين([37])، بعد الأزمة مباشرة، ولكنها لم تصل إلى نتائج حاسمة مؤجلة ذلك إلى اجتماع آخر يعقد في الشهر القادم. ولازلنا نسمع المنادين بإصلاح النظام المالي والنقدي العالمي وكذلك إصلاح مؤسساته (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) فضلاً عن إعادة النظر بنظام الحمائية، بعد فشل مفاوضات الدوحة في إطار منظمة التجارة العالمية التي بدأت عام 2005، مما يعني أن العولمة المالية والعولمة الاقتصادية أصبحت على جدول أعمال التغيير.
لقد أثبتت السياسات الأميركية فشلها على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، مما يؤكد وجود خلل هيكلي في تلك السياسات، فضلاً عن أن تعاطي الإدارة الأميركية مع الأحداث أثبت فشله أيضاً لأنه ينطلق من نوع من الغطرسة، والإفراط في الثقة. وقد آن الأوان لدول العالم وشعوبه أن يبادروا لوقف التدهور الحاصل، وبناء علاقات دولية أكثر عدلاً، تقوم على المساواة بين الشعوب واحترام إرادتها، لكن على الشعوب نفسها تقع أعباء العمل من أجل بناء استقلالها السياسي والاقتصادي، بما يكفل لها التقدم والنمو. وقد أصبح من الهام والضروري التمسك بدور قوي للدولة يعمل لصالح الأغلبية، ويحد من اتساع الفجوة بين أبناء الشعب الواحد، وبين البلد المعني ودول العالم.
وكما أن النظام الرأسمالي على مستوى الدولة، سيكون بعد الأزمة غير ما كان قبلها، كذلك فإن النظام العالمي سيكون بعد الأزمة ليس كما كان قبلها.
هل العالم مقبل على نظام متعددة الأقطاب؟.
من المؤكد أن سمعة أميركا لم تَعُد كما كانت من قبل، وأن نفوذها بالتالي سوف يهتز، قد تستمر بالإمساك على قوتها العسكرية، ولكن نفوذها الاقتصادي والسياسي، سوف لن يكون كما كان سابقاً، وهذا ما سيجعلها مجبرة على السماع إلى الآخرين، الأمر الذي يرجح إعادة التوازن على مستوى النظام الاقتصادي العالمي، مما يعني إدخال التعديلات الضرورية على آليات عمل المؤسسات الدولية، والقيام بإصلاح مؤسسي يواكب التغيير الحاصل، كما أن الضرورة أصبحت ملحة من أجل إحكام سيطرة الشعوب على مواردها، وإعادة التوازن في توزيع الدخول بين الدول الفقيرة والدول الغنية.
ومن نافلة القول أن فكرة عسكرة العلاقات الدولية سوف تصبح من الماضي، وأنه سيكون هناك تغيير هيكلي يتعلق بالرأسمالية الاحتكارية وحرية السوق، ودور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، مما يشير إلى إمكانية إقامة عالم أكثر شرعية وعدالة وتوازناً، الأمر الذي يخلق الأجواء المناسبة لنضال جديد تخوضه الشعوب من أجل إقامة نظام أكثر عدالة وموالٍ للأكثرية يستفيد من أخطاء الماضي، وينهض بمستقبل أفضل للإنسانية جمعاء.
إلا أن ذلك يظل مرهوناً بعدم قيام ظروف تسمح بمغامرة عسكرية، قد تؤدي إلى اشتعال حرب عالمية جديدة.
الدكتور منير الحمش
(**) رئيس مجلس إدارة الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية.
([1]) نشرته وكالات الأنباء العالمية.
([2]) نشر في صحيفة السفير اللبنانية، الصادر في 24/1/2009.
([3]) اعتمدنا في إيراد مؤشرات الاقتصاد الأميركي على تقرير الكاتب الأميركي (تشارلي كويمبي) نشرته مجلة المستقبل العربي، (آذار 2008) فضلاً عن بعض الإحصاءات المنشورة في أجهزة الإعلام.
([4]) في بيانات جديدة نشرتها وسائل الإعلام أن معدل البطالة في الولايات المتحدة وصل إلى 8.1% في شهر شباط 2009.
([5]) أرقام الإنفاق العسكري عن مقالة غالب أبو مصلح في شؤون الشرق الأوسط العدد 130 (خريف 2008)، ص45. وقد استند في ذلك على مقالة:
Chalmers, Johnson, Why the US Has Gone Broke, Information Clearing House, From le Monde, 26/4/2008.
([6]) نشرت جريدة الحياة في عددها الصادر في 6/10/2008 ملخصاً عن تقرير الرابطة الأميركية للمهندسين نقلاً عن مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس.
([7]) (العهد الجديد) أو النيوديل، وهو السياسات الاقتصادية والاجتماعية، التي انتهجها الرئيس الأميركي الديمقراطي روزفلت، ابتداء من عام 1933، بهدف الخروج من الأزمة الطاحنة التي نشبت عام 1929، والتي دُعيت بـ (أزمة الكساد العظيم) وتقوم خطة روزفلت على حزمة السياسات الاقتصادية والاجتماعية من خلال ثلاثة أبعاد:
الأول: برنامج إغاثة للعاطلين عن العمل وبرنامج إغاثة طوارئ للمحتاجين.
والثاني: قوانين جديدة لتنظيم أسواق المال وقوانين إصلاح البنوك.
والثالث: خطة اقتصادية لتنشيط الاقتصاد حتى يستعيد عافيته خاصة في المجالين الزراعي والصناعي.
وفي هذا الإطار أعطى العمال حق الإضراب وصدر النظام القومي للضمان الاجتماعي، واستعمل الإنفاق الحكومي كأداة لتحريك الاقتصاد.
وقد حصلت هذه الإجراءات على تبريرها النظري والأيديولوجي بصدور كتاب كينز عام 1936 الذي يتضمن نظريته العامة في العمالة والفائدة والنقد.
([8]) أوردته وكالات الأنباء العالمية، بتاريخ 30/1/2009.
([9]) رافي باترا، واحد من كبار المنظرين الاقتصاديين في العالم، أستاذ الاقتصاد في جامعة (ساوثرن ميثودست)، له العديد من المؤلفات الاقتصادية، والاقتباس هنا عن كتابه الهام (الانفجار الاقتصادي الكبير في التسعينات في ظل كلينتون والنظام العالمي الجديد) صدرت ترجمته إلى العربية عن مؤسسة الصالحاني للطباعة والنشر، دمشق، سورية، ترجمة د. عدنان شومان، (1993) والاقتباس المذكور في الصفحة 24 من ترجمة الكتاب المذكور.
([10]) د. سير أمين، الانهيار المالي، أزمة نظام؟ ملف جريدة الأخبار اللبنانية، 6/1/2009.
([11]) جريدة السفير، 14/11/2008.
([12]) جريدة الحياة، 23/9/2008.
([13]) نيوزويك (23/12/2008) أوقفوا الانهيار السريع بقلم جيفري إي غارتن، (ص16).
([15]) نيوزويك (10/2/2009) وقد وردت هذه المعلومة لمقالة بقلم رنا فروهار بعنوان أزمة غذاء، ربما يكون الجوع أسوأ تداعيات الركود الاقتصادي، وجاء في المقال أنه: «لما كان ذوو الفقر المدقع ينفقون أصلاً 50% من دخولهم على الغذاء، فإن المسؤولين يشعرون بالقلق من إمكانية ارتفاع عدد الأشخاص الجائعين خلال الأشهر المقبلة (هناك منهم حالياً 963 مليوناً مقارنة بـ 923 مليوناً عام 2007 قبل بداية آخر أزمة غذاء)».
([16]) نيوزويك (23/1/2008) أوقفوا الانهيار السريع، بقلم جيفري أي غارتن، ص16.
([17]) كارل بولايني: أستاذ التاريخ الاقتصادي في إنكلترا والولايات المتحدة، عرض أفكاره في كتابه الهام (التحول العظيم) الذي استغرق إعداده أكثر من عشر سنوات (بدأ إعداده في الثلاثينات وأنهاه في الأربعينات من القرن الماضي)، ومازال هذا الكتاب مرجعاً في تحليل تناقضات العولمة الراهنة.
([18]) آدم سميث (1723 – 1790) اسكتلندي تعلم في جامعتي كلاسكو وإكسفورد ثم باشر مهنة التدريس، وهو يعتبر أول اقتصادي يكتب في النظرية الاقتصادية، وتعود شهرته إلى كتابه (ثروة الأمم 1776) الذي يحتوي على أفكاره في النظرية الاقتصادية نادى بحرية السوق، وبأنها قادرة (دون تدخل الدولة) على خلق التوازن في ظل ما يدعى (المنافسة الذرية).
([19]) كارل ماركس (1818 – 1883)، أعطى تفسيراً كاملاً لمختلف أوجه الحياة، وتحتل الفلسفة الماركسية مكان الصدارة من المذهب الماركسي الذي يضم: الفلسفة الجدلية والفلسفة المادية، والمادية التاريخية، وحسب المادية التاريخية، فإن النظم الاجتماعية تطورت من المجتمع الميداني – مجتمع الرق – الإقطاع – الرأسمالية التي ستتحول من خلال مرحلة انتقالية نحو الشيوعية.
([20]) د. سمير أمكين، الانهيار المالي، أزمة نظام، ملف جريدة الأخبار اللبنانية، 6/12/2008.
([21]) د, فؤاد مرسي، الرأسمالية تجدد نفسها، عالم المعرفة، 147/1990، ص175.
([22]) روبرت هيلبرونر، رأسمالية القرن21، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1995، ترجمة كمال السيد، ص108 وما بعد.
([23]) المرجع السابق، (اختصرنا آراء هليبرونر من خلال كتابه المذكور).
([25]) ليستر ثورو، مستقبل الرأسمالية، ترجمة عزيز سباهي، دار المدى للثقافية، دمشق، 1998، وثورو اقتصادي أميركي محترف، ص311.
([26]) برنار ليفاسير، الرأسمالية هل هي قابلة للإصلاح؟ بحث مترجم عن مجلة Esprit الفصلية، العدد الأول لعام 2000، نشر في الثقافة العالمية الصادرة في الكويت، 102 لعام 2000، وليفاسير اقتصادي فرنسي.
([27]) انظر كتاب المؤلف: مسيرة الاقتصاد العالمي في القرن العشرين، تأملات في النمو والأزمات والفوضى، الأهالي، دمشق (2001)، ص250.
([28]) أنطوني جيدنز هو عميد كلية لندن للدراسات الاقتصادية والسياسية، كتابه «الطريق الثالث – تجديد الديمقراطية الاجتماعية»، صدر عام 1998، ترجمه إلى العربية د. مالك عبيد أبو شهيوه، ود. محمود محمد خلف، صدر عن دار الرواد، طرابلس ليبيا.
([29]) جون كراي، الفجر الكاذب، أوهام الرأسمالية العالمية، مكتبة الشروق، القاهرة 2000، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، ص318، وجون كراي هو بروفيسور السياسة في جامعة إكسفورد، وكان من مؤيدي اليمين الجديد، لكنه يحذر في كتابه هذا وكتاباته ومحاضراته العديدة من أوهام رأسمالية العولمة والسوق الحرة، التي رفعت علمها الولايات المتحدة وحواريوها، في أوروبا وأنحاء العالم، وقد أكدت الأزمة الراهنة على أن تحذيراته لم تكن بعيدة عن الواقع.
([30]) نشرت نتائج هذا الاستطلاع في عدد نيوزويك الصادر باللغة العربية بتاريخ 21/1/2009، ص15.
([31]) فوكوياما، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، وهو صاحب نظرية (نهاية التاريخ) التي يدلل فيها على أبدية النظام الرأسمالي، ولكنه يظل اقتصادياً ليبرالياً حتى وإن تخلى عن نظريته، الآراء المذكورة في هذه الورقة، نشرتها مجلة (نيوزويك) الأميركية في عددها الصادر في 14 أكتوبر/تشرين الثاني 2008.
([32]) نقلت صحيفة الأخبار اللبنانية هذا المقال في عددها الصادر في 6/2/2009.
([33]) نقلاً عن محمود عوض، الحياة 5/10/2008.
([34]) الاقتباس عن تقرير مدير المخابرات الأميركية، ومن وثيقة معهد الدراسات الإستراتيجية التابع لوزارة الدفاع، هو عن مقالة هامة لسمير كرم، منشورة في جريدة السفير اللبنانية في عددها الصادر في 20/2/2009.
([35]) جورج فريدمان (The Next 100 Years) عرضت هذا الكتاب سحر بعاصيري في صحيفة النهار اللبنانية، الصادرة في 7/2/2009، ص13.
([36]) نشرت هذه الدراسة في مجلة نيوزويك الأميركية، النسخة العربية، العدد الصادر في 17/2/2009.
([37]) تضم مجموعة العشرين، الدول الصناعية السبع الكبرى، ودول ذات اقتصادات صاعدة من أبرزها: روسيا، والصين، والهند، والبرازيل، والسعودية، ويمثل حجم اقتصاداتها مجتمعة نحو 85% من الاقتصاد العالمي.